وإذا كان الحال في العصر الأول جرى فيه ما جرى، فكيف الحال بالعصور بعده، لقد تغير بلا شك كل شيء، وعبد الناس أنفسهم، واتبعوا أهواءهم وتحاكموا إلى الأعراف والتقاليد وعكفوا حول الشيطان المريد، ونبذوا وراءهم ظهرياً شرع الرب المجيد، إلا قلة يسيرة من ذوي الرشد السديد جعلنا الله منهم بمنه وكرمه فهو الفعال لما يريد، قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى –: وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرها، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف 10هـ ورحمة الله على السيد قطب إذ يقول في كتابه العظيم: "معالم في الطريق": إن العالم يعيش اليوم كله في جاهلية من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها، هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهية، وهي الحاكمية، إنها تسند الحاكمية إلى البشر فتجعل بعضهم لبعض أرباباً، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة إدعاء حق وضع التصورات والقيم، والشرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله – جل وعلا – للحياة، وفيما لم يأذن به الله – عز وجل – نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية، تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم، وتقاليدهم موارد ثقافاتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيراً إسلامياً، وهو كذلك، من صنع هذا الجاهلية (?) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015