خطبة المسجد النبوي - 24 صفر 1432 - فضل الحلم وتحاشي الغضب - الشيخ عبد المحسن القاسم
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مظل له، ومن يظلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً .. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، أيها المسلمون: يعلو المرء بالإيمان وحسن الخلق، وترتقي منزلته عند الله بالجمع بينهما، قال عليه الصلاة والسلام: (أنا زعيم -أي ضامناً- ببيتٍ في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) رواه أبو دواود. والحلم أساس الأخلاق ودليل كمال العقل وامتلاك النفس، والمتّصف به عظيم الشان، رفيع المكانه، محمود العاقبة، مرضي الفعل، قال شيخ الاسلام رحمه الهم: الحلم والصبر على الأذى والعفو عن الظلم أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة، يبلغ بها الرجل ما لا يبلغه بالصيام والقيام وهو من الخصال التي يحبها الله في عباده ووعد من آمن واتصف به بالمغفرة والجنة، قال سبحانه (والكاضمين الغيظ) قال ابن كثير رحمه الله: أي لا يُعمِلونَ غضبهم في الناس بل يكفون عنهم شرهم، ويحتسبون ذلك عند الله، وأحق المتصفين بالحلم هم الرسل، قال الفضيل رحمه الله: من أخلاق الأنبياء الحِلمُ والأناة وقيام الليل، والله أثنى على إبراهيم عليه السلام بالحلم في قوله (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) وبشر بغلام متّصف بالحلم (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) ونوح عليه السلام دعى قومه إلى عبادة الله فجعلوا أصابعهم في آذانهم استكباراً عليه وقالوا عنه (مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) فحَلَم عليهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وموسى عليه السلام رماه قومه بالجنون وتحدوه بالسحر وأتمروا عليه ليقتلوه، فحلم عليهم فبرأه الله مما قالوا، وكان عند الله وجيها، وحكى النبي صلى الله عليه وسلم عن نبي من الانبياء - ضربه قومه فأدموه - فكان يمسح الدم عن وجهه ويقول (رب اغفر لقومي إنهم لا يعلمون) متفق عليه، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم لاقى الأذى والسخرية من قومه، وكان يقول لعائشة (رضي الله عنها) (لقد لقيت من قومك ما لقيت) وملك الجبال يأتيه ويقول له: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، فقال: (بل أرجوا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا) متفق عليه، ورأه أعرابي فجذبه بردائه جذبة شديدة حتى أثر في عنقه، وقال يا محمد: مرّ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك، وأمر له بعطاء، متفق عليه. وامتد حلمه إلى الخدم، قال أنس رضي الله عنه: خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما قال لي أف قط، وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على من اتصف بالحلم من الصحابة، فقال لأشج عبد القيس "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة" رواه مسلم، وأبو بكر رضي الله عنه سبق غيره بالإيمان وكمال الصحبة، وبما تحلى به من صفات عظيمة فشهد له الصحابة بذلك، قال عمر (رضي الله عنه): أبوبكر أحلم مني وأوقر، والشجاعة في قوة القلب وثباته، فلا يزعزعه قول جاهل ولا فعل سفيه، والقوي الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب، فيفعل ما يصلحه، أما المغلوب حين غضبه فهو ضعيف، والنبي صلى الله عليه وسلم مدح من ملك نفسه عند الغضب فقال: "ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب" متفق عليه. واحتمال السفيه خير من التحلي بصورته، والإغضاء عن الجاهل خير من مشاكلته، ومن سكت عن جاهل فقد أوسعه جواباً وأوجعه عقابه، قال رجل لضرار بن القعقاع (رضي الله عنه): والله لو قلت لي مسبة واحدة لسمعت مني عشرا، فقال له ضرار: لو قلت عشراً لم تسمع مني واحدة، وشتم رجل الشعبي (رحمه الله) فاجابه بقوله: إن كنت ما قلتَ فغفر الله لي، وإن لم أكن كما قلتَ فغفر الله لك، ومن صفح عن الخلق عفى الله عنه. قال بن القيم: يعامل العبد في ذنوبه بمثل ما يعامل به العبد الناس في ذنوبهم، والجزاء من جنس العمل، فمن عفى .. عفى الله عنه، ومن سامح أخاه في إساءته إليه .. سامحه الله في إساءته، ومن أغضى وتجاوز .. تجاوز الله عنه، ومن استقصى .. استقصى الله عليه. والغضب مفسد للأخلاق والأعمال، وللعقل والمروءات، قيل لابن المبارك (رحمه الله): إجمع لنا حسن الخلق في كلمة، قال: ترك الغضب، وترك الغضب وصية الرسول صلى الله عليه وسلم، جاءه رجل فقال أوصني .. قال (لا تغضب) فردد مراراً .. قال (لا تغضب) رواه البخاري. قال الراوي (رضي الله عنه) ففكرت حين قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله والعقل ينقص عند الغضب فيؤدي إلى قول الباطل وكتم الحق. ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (أسألك كلمة الحق في الغضب والرضى) رواه النسائي، ويمنع من القول في العدل، قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يقضين حَكَم بين اثنين وهو غضبان) متفق عليه. وقد يخسر المرء شيئا من ماله بسبب الغضب، قال جابر (رضي الله عنه): سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ورجل من الأنصار على ناضح (أي بعير) فتَلدَنَ عليه بعض التلدن (أي تلكع عليه) فقال لبعيره "لعنك الله"، فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - (من هذا اللاعن بعيره) قال: أنا يارسول الله قال (انزل عنه فلا تصحبنا بملعون، لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم، لا توافق من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم) رواه مسلم.
قال ابن رجب رحمه الله: فهذا كله يدل على أن دعاء الغضبان قد يجاب إذا صادف ساعة إجابه وأنه يُنهى عن الدعاء على نفسه وأهله وماله في الغضب، وإذا غضب الإنسان قال ما لا يعلم وندم على ما قد يعمل من عقوق والديه أو قطع رحمه أو مفارقة زوجه أو قطع رزقه أو هجران الأصحاب له أو الإعتداء على الآخرين أو صدور أقوال محرمة منه من قذف وسباب وفحش وأنواع من الظلم والعدوان، ويتولد من ذلك الهم والوحشة والحزن والوحدة، وقد يعاقب على ما بدر منه في غضبه بحدٍ او تعزير، أو عقوبة في الآخرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر من غضب بتعاطي أسباب تدفع عنه الغضب، فأمر بالتعوذ من الشيطان لأنه سبب الغضب والعدوان.
رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً مغضباً قد احمر وجهه، فقال (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لوقال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) متفق عليه، ونهى الغضبان عن الكلام سوى الاستعاذه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا غضب أحدكم فليسكت) رواه أحمد، فإن كان بقربه ماءً توضأ، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) رواه أحمد، وأمره بالتحول عن الهيئة التي هو عليها، قال عليه الصلاة والسلام (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع) رواه أبوداود، ومن شرف النفس وعلو الهمة الترفع عن السباب وفي الإعراض عن الجاهل صمم للعرض والدين، ومن صفات المؤمنين (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) ومن غضب فعليه أن يتذكر حلم الله عليه، وأن يخشى عقابه، فقدرة الله عليك أعظم من قدرتك على الخلق وليتذكر ما يؤدي إليه الغضب من الندم والحسرة، وليحذر عاقبة العداوة والانتقام وشماتة الأعداء بمصابه، والمؤمن يستشعر ثواب العفو وحسن الصفح وأن الدنيا أهون من أن يغضب لها، فيقهر نفسه عن الغضب ومن لم يكن حليما فعليه أن يدفع نفسه للحِلم، قال الأحنف: لست بحليماً ولكني أتحالم، وإذا خالف المرء ما يأمره به غضبه، وجاهد نفسه على ذلك، اندفع عنه شر الغضب، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما مزيدا.
أيها المسلمون ..
من غَرَسَ الحِلمْ اجتنى ثمرة السِلم، والحلم يعرف ساعة الغضب، وخير الناس بطيء الغضب، سريع الرجوع عنه، وشرهم سريع الغضب، بطيء الرجوع للرضا، ومن كمال العقل من إذا غضب لم يدخله غضبه في باطل، ومن إذا رضي لم يخرجه رضاه من حق، وإياك والعجلة فإنك إذا عجلت أخطأت حقك، وكن سهلاً لينا للقريب والبعيد، والعاقل يدرأ عن نفسه غضب الناس عليه من سخرية بهم أو استهزاء، أو تنقص مكانتهم أو تعدي على أعمالهم أو وقوع في عرضهم بغيبة أو بهتان أو افتراء، ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه فقال في محكم التنزيل (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
اللهم صلي وسلم على نبينا محمد، وارضى اللهم عن خلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون أبي بكر وعمر عثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئننا رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها الا أنت، ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
الله وفق إمامنا لهداك واجعل عمله في رضاك ومتعه بالعافية والصحة العاجلة يارب العالمين، ووفق جميع ولاة المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكَرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلآئه ونعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.