خطبة المسجد الحرام - 18 شوال 1432 - الفهم الصحيح للواقع والواجب نحوه - الشيخ عبد الرحمن السديس
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمدك ربي ونستعينك ونتوبُ إليك ونستغفرك، تباركَ ربُّنا حَبانَا شِرعةً غرَّاء جلَّت أحكامًا، سبحانه وبحمده توحَّد بالعزَّة والجلالِ سرمدًا ودوامًا.
فالحمدُ لله حمدًا على الآلاء حمدًا كثيرًا جلَّ عن إحصاءِ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها استبصارًا في الحق وإلهامًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله بلَّغ رسالةَ الباري تعلمًا وإفهامًا، فزكَّى من البريَّة - بإذن ربه - أرواحًا وأفهامًا، صلَّى عليه اللهُ وعلى آله الطاهرين الطيبين نفوسًا وأحلامًا، وصحبِه البالغين من مداركِ الأحكام قِممًا أنَّى تُسامًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرجو من الحق الذُّرَى والمرامَا، وسلَّم تسليمًا كثيرًا عديدًا مُباركًا مديدًا مزيدًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، إن رُمتُم من الأمجاد غاياتها، ومن رحمات الهداية نهاياتها فاستعصِموا من التقوى بالعُروة الوُثقى؛ فللهِ ما أزكى مغبَّاتها وأهنأَ ثمراتها، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور: 52].
من يتقِ اللهَ يجعل عُسرَهُ يُسرًا ويُعظِمُ اللهُ بالتقوى له أجرًا
أيها المسلمون:
في هذه الآونة التأريخية تعيشُ أمتنا الإسلاميةُ فتنًا حالِكة وعواصفَ من المآسي هالِكة، اختلفَت ضُروبُها واستحرَّت كُروبُها، وغدَت كعارضٍ مُنهمِر، وبرقٍ مُستمِر، أملَت على المسلمين التدبُّر والاعتبار، وعلاجها عاجلاً بأوفقِ مِسبار، ولكن في حكمةٍ واقتدار.
من أنكى تلكم الفتن في الأمة وملَّتها ووحدتها وأُلفتِها: فتنةُ انحرافِ الفُهوم والعُقول وتأويلِ النصوص والنُّقول إلى غير المراد واللامعقول من قول الباري - تبارك وتعالى - وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومنهج السلف وخير الخلَف - رحمة الله تعالى عليهم -، لذلك كان الفهمُ الوثيق والإدراكُ المتينُ الدقيق للوحيَيْن الشريفين من أزكى مِنَن الباري وأسناها، وأجلِّ حصائد العلوم وأغلاها، وأسمَى وسائل الاستنباط وأزكاها، به يسمو صاحبُه، وتجِلُّ مناقبُه، وتنبُو عن الفَرَطات عواقِبُه.
أما اختصَّ المولى - سبحانه - بالفهمِ الرجيح نبيَّه سليمان - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام - في قوله تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء: 79].
وأرشدَ أميرُ المؤمنين عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - في كتابه لأبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - للزوم الفهم وصُواه في قولٍ ما أجلَّ فحواه: "الفهمَ الفهمَ فيما أُدلِي إليك".
وفي الأثر عن أبي جُحيفة قال: قلتُ لعليٍّ - رضي الله عنه -: هل عندكم كتابٌ؟ قال: "لا، إلا كتاب الله، أو فهمٌ أُعطيَه رجلٌ مسلم"؛ خرَّجه البخاري وأهلُ السنن.
وما ذاك إلا لأن آثار الفهم في مُعتركِ الاختلاف مُسدَّدةٌ مضمونة، وقُصودَه في معاضِلِ الترجيح راسخةٌ مأمونة، يُفضِي لتحقيق السعادتين ونَيْل الحُسنيَيْن.
إخوة الإسلام:
ومن بدائع العلامة ابن القيم - رحمه الله - قوله: "وصحةُ الفهم نورٌ يقذِفُه اللهُ في قلب العبد يُميِّزُ به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهُدى والضلال، والغيِّ والرشاد .. " إلى أن قال - رحمه الله -: " .. ولا يتمكَّن المُفتي ولا الحاكمُ من الفتوى والحُكم بالحق إلا بنوعين من الفهم؛ أحدهما: فهم الواقع والفقهُ فيه، والثاني: فهمُ الواجب في الواقع، وهو فهمُ حكمِ الله الذي حكَمَ به في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -". اهـ كلامه - رحمه الله -.
لأن صحةَ الفهم وحُسن القصد - يا رعاكم الله - سلامةٌ للدين والذِّمَم والأحكام والقِيَم، وانطلاقًا بالأمة وأمنِها ووحدتها صوبَ السبيل الأرشد الأمَم.
أيها المؤمنون:
وقد كان الاختلافُ في فهم النصوص وتفسيرها لدى أهل الاجتهاد روضًا خصبًا في بيان سعة الشريعةِ ومُرونتها، وبُرهانًا ساطعًا على يُسر الدين وانسجامه مع المُتغيِّرات، ورعايته للمقاصد النيِّرات، وتحقيقه للمناط الصحيح في النوازل والمُستجِدَّات.
أخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يومًا لأصحابه: «من كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر فلا يُصلِّينَّ العصرَ إلا في بني قُريظَة»، فاختلفوا - رضي الله عنهم - في فهم ذلك على رأيَيْن مشهوريْن، أقرَّهما المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
وهكذا في جملةٍ من المسائل والفروع عدَّها أهلُ العلم من اليُسر والسَّعة التي لا يعيبُ فيها أحدٌ على الآخر، على ضوء القاعدة التيمية الذهبية المشهورة: "رفعُ الملام عن الأئمة الأعلام"، هذا؛ وقد بوَّب البخاريُّ - رحمه الله -: "بابٌ: الفهمُ في العلم".
كل ذلك - يها المُوفَّقون - شريطةُ أن تكون قراءةُ النصوص وفهمُها على مُقتضى النصوص الصحيحة والمقاصد الصريحة وفهمِ السلف الصالح ذوي الديانة والقريحة، وأن يكون المُتحلِّي به من أهل العلم الربَّانيين، وكفى بذلك مكانةً لروح الشريعة في نفوس المُكلَّفين، مصدرًا ثرًّى للمُجتهِدين المُعتبَرين.
إخوة الإسلام:
وكم للفُهوم المُنحرفة الجانحة بين المسلمين من معرَّاتٍ وويلات، أذهبَت فيهم روحَ الكراهية والصراعات، وأجَّجت أُوارَ التعصُّب والنزاعات، وها هو الواقعُ البئيس عبر المجالس والمُنتديات، والإعلام والفضائيات ينطقُ باستعلاءٍ أباطيل وافتراءات، وفُشُوِّ أضاليل وادِّعاءات، وانتشار قناعاتٍ شاذَّى وافتراءات، تقضِمُ بهبُوبِها الأصولَ والثوابت، وتشرخُ بشُبُوبها معالمَ الدين الباسقة النوابِت.
هذا نصٌّ تقضَّى أوانُه، وذاك حكمٌُ فاتَ زمانُه؛ لأن الحياة بلَغت شأوًا مديدًا من الرُّقيّ يقضي بذلك!
زعموا، وبئس ما زعموا!
وكم عائبٍ قولاً صحيحًا وآفتُه من الفهمِ السقيمِ
ولكن تأخذُ الأسماعُ منه على قدرِ القرائح والفُهومِ
وهل يكونُ الحرامُ الصُّراحُ يومًا ما حلالاً، والمِلحُ الأُجاجُ حالاً عذبًا زُلالاً؟!
وهل تكونُ شعيرةُ الحِسْبة التي حازَت بها أمتُنا الخيريةَ على العالمين اقتحامًا للخصوصية، وخرقًا للحرية الشخصية؟!
وهل يكونُ ميراثُ الرجل بمُقتضى النص: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11] على السواء من المرأة؟!
وأيُّ وجهٍ للمُفاضلة في ذلك بزعمهم؟! وكم، وكم.
من الذين يُحرِّفون الكلِمَ عن مواضِعِه، ويتطاوَلون على الأصول والمُحكَمات، ويُزايِدون على الثوابتِ والمُسلَّمات من الذين تنزِعُ فُهومُهم النَّزِقة من مشاربِ التغريب والتعلمُن وإيديولوجيات العصرنةِ والتعولُم! وحقًّا:
إذا لم يُفِدكَ العلمُ خيرًا فخيرًا منه أن لو قد جهِلتَ
وإن ألقاكَ فهمُك في مهاوٍ فليتكَ ثم ليتكَ ما فهِمتَ
فكلُّ اقتحامٍ لثابت التشريعات ومُسلَّم المُحكَمات بالتحويرِ وسيءِ الأفهام فهو افتراءٌ على الله، وافتياتٌ على دينه، وتهجُّمٌ على الحق بغير علمٍ، وليٌّ لأعناق النصوص بما يخدِمُ الهوى، ويُضِلُّ عن الهُدى، ويُذكِي رواجَ الشُّبُهات، ويُطوِّحُ بالمسلمِ إلى مساءات التحلُّل والتميُّع والانهزامية والتغريب، أو مباءات التكفير والتدمير والعنف والتخريب.
ولهم نصوصٌ قصَّروا في فهمها فأُتوا من التقصير في العِرفانِ
حتى زلَّت كثيرٌ من الأقدام، وضلَّت عديدٌ من الأفهام، والله المستعان.
ومما أسفرَ عن المفاهيم السياسية الإصلاحية القاتِمة النرجسية ذات الآحادية العُنجهيَّة: التسلُّط لمُصادرة آراء الآخرين، وإقصاء طُموحاتهم، وطمس كراماتهم بشتَّى أساليب القمعِ والقهرِ وقصمِ الظهر في تحدٍّ للعالَم سافرٍ أرعَن، وما ذلك إلا لانتكاسِ الفهم، واستحكامِ الهوى والوَهم.
أمة الإسلام:
ومن ضُروبِ القضايا المُلِحَّة في هذا الأوان المُصطخِب والتي ونَت فيها الأفهام، واعتراها الخللُ والإيهام لدى كثيرٍ من الأفهام: قضايا في الاعتقاد، والمُعاملات المصرفية، ومسائل الربا، والمرأة وحجابها وعملها، والفتوى والمُتغيِّرات، والفكر والحوارِ والمُستجِدَّات، وإنها لقمينةٌ بأن تُؤصَّلَ على ضوءِ المفاهيم الشرعية الصحيحة التي تُجلِّي فقهَ المآلات واعتبار الأولويات، ولن يكون استنباطُ الرأيِ صوابًا سديدًا والفهمُ مُحكَمًا رشيدًا إلا أن يرِدَ أدلَّة مُسلَّمات الشريعة، وقواعِدها المَنيعَة، ومقاصِدها السامية الرفيعة، في ترفُّعٍ أن تلوكَها أقلامُ الصحافة، ومُلاسَناتُ المُتشاكسين، أو تتراشقَها المُنتديات، وشبكاتُ المعلومات.
فالمرجعيَّةُ الضابطة للمفاهيم البائرة والآراء الخائرة هي - ولا مَيْن - للوحيَيْن الشريفين.
فعليك بالوحيَيْن لا تعدُوهُما واسلُك طريقَهما بفهمٍ جيدٍ
فإذا تعذَّرَ فهمُ نصٍّ غامضِ فاستفتِ أهلَ الذكر كالمُسترشِدِ
يقول الإمامُ الشافعيُّ - رحمه الله - في آراء الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم -: "وآراؤهم لنا أحمدُ وأولى لنا من آرائنا عندنا لأنفسنا".
ولله درُّ الشاطبي - رحمه الله -؛ حيث يقول: "يجبُ على كل ناظرٍ في الدليل الشرعي مُراعاةُ ما فهِمَ منه الأولون وما كانوا عليه في العمل به؛ فهم أحرى بالصواب، وأقومُ في العلم والعمل".
معاشر الأحبَّة:
وإذا كان اختلافُ الناس جِبِلَّةً في الخلق، كما قال تعالى: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود: 118]؛ لتفاوُتِ مدارِكهم وفُهومهم وتبايُن معارفهم وعلومهم، فإن مجالَ ذلك في دائرة المُسموح به شرعًا، ومما يسُوغُ فيه اختلافُ وجهات النظر، ومن ذوي مُكنةٍ مُتجرِّدٍ عن العصبية والهوى، مُعرِّدٍ واسع الاطَّلاع على النصوص والأقوال، دقيق الإدراك لكليَّاتها، وثيق التمييز بين تطبيقاتها، مُطَّلِعًا بمسالك الخلافات وأدبياتها وأوجه الاستدلال ومُدرَكَاتها.
ومن كان كذلك - ونِعَمَّ ذلك - فيُمِدُّه ربُّ العباد بهديِه، وبكُلِّ مكرُمةٍ وفهمٍ أجدرُه، ولرُبَّ خائضٍ مُعترَك المفاهيم والآراء يقول ببجاحةٍ عاتَّة في قطعيَّةٍ باتَّة: فهمِي صوابٌ لا يحتمِلُ الخطأ، وفهمُ غيري خطأٌ لا يحتمِلُ الصواب!
وهذا المسلكُ مُصادمٌ لأدب الخلاف والحوار؛ إذ يقتضي تزكيةَ النفس وتنزيهها عن المزَالّ، خلافًا لأدب الجِلَّةِ من العلماء من التواضُع وخفضِ الجناح، كما أُثِرَ عن الإمام الشافعي - رحمه الله - قولُه: "رأيِي صوابٌ يحتمِلُ الخطأ، ورأيُ غيري خطأٌ يحتمِلُ الصواب".
وإن هذه الاغترارَ من أولئك مما تئِنُّ منه حلائبُ العلم وميادينُه وساحاتُه، وتصطرخُ منه المُنتدياتُ والمُلتقيات، وحُسن الظنِّ في هؤلاء أن يكونوا في الأمةِ دواءَها، فكانوا بلاءَها وداءَها، والله المُستعان.
وبعدُ، معاشر المسلمين:
ففي زمن الانفتاحِ الإعلامي العالمي المُبهِر بفضائياته وتِقاناته لزِمَ العلماءَ والدعاةَ الفُضلاء ورجالَ الإعلام وحمَلَة الأقلام بذلُ غاية الجهود لتحقيق أسمى القُصود في تصحيح المفاهيم المدخولة العليلة والآراء الجافيةِ الوبيلَة، وبيانُ المنهج الحق وآلياته في التلقِّي عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإدراك معاقِد مُرادهما، وأن تُجيَّش في سبيل ذلك كلُّ الطاقات والإمكانات مع ربط الأمةِ بفُهوم السلف الأخيار - عليهم الرحماتُ الدِّرار -، وبذلك تتحقَّقُ للأمة الآمالُ الكِبار، بفضل المولى العزيز الغفَّار.
رزقنا الله وإياكم التمسُّك بالكتاب والسنة، وحُسن الوقوف على فهم سلف هذه الأمة، وكشفَ عنها ما أصابَها من كربٍ وبلاءٍ وغُمَّة.
اللهم ارزُقنا من الفهم عنك وعن رسولك - صلى الله عليه وسلم - ما به نُحقِّقُ مُرادَكَ ومُرادَ رسولك - صلى الله عليه وسلم -، ونبلُغُ به منالَ العلماء العاملين، والأولياء المتقين، إنك جوادٌ كريم.
اللهم اهدِنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات من كل الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا لا يتناهَى مُكرَّرًا، أحمده - سبحانه - خصَّ العقلَ بالفهم الصحيح فكان الأنقى جوهرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنديدًا وتوحيدًا في الفؤاد تقرَّرًا، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خيرُ من أرشدَ للحق والهُدى إفهامًا وتعليمًا فأزهرَا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله الأُلَى داموا للعلم والمعارف عيونًا ومصدرًا، وصحبه الزاكين مخبرًا ومظهرًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واعتصِموا بهدي الوحيَيْن وفهم السلف، وكونوا ممن أحجمَ عن خطَل الرأي وكفَّ تُفلِحوا وتفوزوا، وللعِزَّة القَعساء تحُوزوا.
إخوة الإسلام:
وحيثُ تستفتِحُ الأمةُ الإسلاميةُ عامًا دراسيًّا ميمونًا، يرشُفُ فيه أبناؤنا زُلالَ العلم ونَميرَ المعرفة؛ فإن المُؤمَّلَ - بإذن الله - من محاضِن التربية ومعاقِل التعليم بناءُ الأجيال على التمسُّك بأصول الشريعة مُحكمَاتها، وتحصينُهم دون التفريط في فروعِها وجُزئياتها، تقصِّيًا لمنهج أسلافِهم الأمجاد، مُثابِرين على بناء ملَكَة الفهم الصحيح الوقَّاد التي تكون مِلءَ أسماعهم وخفقَ قلوبهم، وتأصيلُهم على حِذقِ أساليب الإقناع والحوار، وأرفع آداب الاختلاف عند مضائق الأنظار، يُتوِّجُ ذلك الدُّربةُ على جودة الإدراك والتعليل، وحُسن الاستنباطِ من النصِّ والدليل، في غير تجانُفٍ عن الوسطية والاعتدال، ومراقي التزكية والكمال، ونأيٍ عن مسالك الغلوِّ والجفاء.
وبذلك يتعلَّقون بأشرف الآمال فيُحرِزونها، وينقلِبون لدقائق العلوم فيُبرِزونها، ويرتقُون إلى قِمَم التألُّق وحُسن الفهم، غيرَ مُكتَفين بمُجرَّد الانتسابِ إلى العلم، فتلكَ مرحلةٌ تخطَّاها جيلُ الإبداع والتميُّز والطُموحات.
وعلى غِرار تلك النفائس والأطواق سيرتبئُ النشءُ المبارك - بإذن الله - أثباجَ المجد والإنصاف الماخِر، ويُحقِّقُ قولَ القائل: "كم ترك الأولُ للآخر"، وما ذلك على الله بعزيز.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على من أتى بأنفع العلم والتبيان على مرِّ الدهور والأزمان: المُصطفى من ولدِ عدنان، كما أمركم المولى في مُحكَم القرآن، فقال تعالى قولاً كريمًا عظيمَ البُرهان: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
فصلِّ يا رب على المُباركِ محمدٍ وآلهِ وبارِكِ
وصحبِه والتابعين النُّبَلا ومن قَفا آثارهم ووصَلا
وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم كُن له على الحق مُؤيِّدًا ونصيرًا، ومُعينًا وظهيرًا، وهيِّئ له في كل أمورِه رأيًا سديدًا ورأيًا رشيدًا وعملاً حميدًا، يا حيُّ يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارزقه البِطانةَ الصالحةَ التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّق وليَّ عهده لكل خير، وألبِسه لباسَ الصحة والعافية، ورُدَّه إلينا سالمًا مُعافًى يا رب العالمين، اللهم وفِّق النائبَ الثاني لكل خير، واجزِه خيرًا على جهوده الأمنية يا رب العالمين.
اللهم وفِّق جميع ولاة المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم كُن للمُضطهدين المُستضعفين في دينهم في كل مكان، اللهم إن لنا إخوانًا في الدين مسَّتهم البأساءُ والضرَّاءُ والشدَّةُ واللأواءُ، اللهم ارفع عنهم واكشِف ضُرَّهم يا حيُ يا قيَّوم، اللهم أصلِح أحوالَهم، اللهم أصلِح أحوالَهم، واحقِن دماءَهم، واحقِن دماءَهم، واحقِن دماءَهم يا حيُّ يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم شتِّت شملَهم، وفرِّق جمعَهم، واجعلهم عِبرةً للمُعتبِرين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللم أنقِذ المسجدَ الأقصى من المُحتلِّين المُعتدين يا قوي يا عزيز، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِث قلوبَنا بالإيمان واليقين، وبلادَنا بالخيرات والأمطار والغيث العَميم.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90].
فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُركم، واشكُروه على نِعَمه يزِدكم، ولذكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنَعون.