روى ابن جرير الطبري في تاريخه قال: لما هبط المسلمون المدائن، وجمعوا الأقباض، أقبل رجل بحق معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض. فقال والذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه. فقالوا: هل أخذت منه شيئا؟ فقال: أما واللّه لولا اللّه ما أتيتكم به. فعرفوا أن للرجل شأنا. فقالوا: من أنت؟ فقال: لا واللّه لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني! ولكني أحمد اللّه وأرضى بثوابه. فأتبعوه رجلا حتى انتهى إلى أصحابه، فسأل عنه فإذا عامر بن عبد قيس (?) ..
وقد حملت الغنائم إلى عمر - رضي اللّه عنه - بعد القادسية، وفيها تاج كسرى وإيوانه لا يقومان بثمن .. فنظر - رضي اللّه عنه - إلى ما أداه الجند في غبطة وقال: «إن قوما أدوا هذا لأميرهم لأمناء» ..
وهكذا ربى الإسلام المسلمين تلك التربية العجيبة التي تكاد أخبارها تحسب في الأساطير.
ثم يستطرد السياق - في معرض الحديث عن الغنائم والغلول - يوازن بين القيم .. القيم الحقيقية التي يليق أن يلتفت إليها القلب المؤمن، وأن يشغل بها: «أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ؟ هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» ..
إنها النقلة التي تصغر في ظلها الغنائم، ويصغر في ظلها التكفير في هذه الأعراض. وهي لمسة من لمسات المنهج القرآني العجيب في تربية القلوب، ورفع اهتماماتها، وتوسيع آفاقها وشغلها بالسباق الحقيقي في الميدان الأصيل.
«أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ..
هذه هي القيم، وهذا هو مجال الطمع! ومجال الاختيار. وهذا هو ميدان الكسب والخسارة. وشتان بين من يتبع رضوان اللّه فيفوز به، ومن يعود وفي وطابه سخط اللّه! يذهب به إلى جهنم .. وبئس المصير!
هذه درجة وهذه درجة .. وشتان شتان: «هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ» .. وكل ينال درجته باستحقاق، فلا ظلم ولا إجحاف، ولا محاباة ولا جزاف! «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» ..