ثم لقد سبق في سورة البقرة - في الجزء الثالث - أن رأينا السياق هناك يجمع بين الحديث عن الربا، والحديث عن الصدقة. بوصفهما الوجهين المتقابلين للعلاقات الاجتماعية في النظام الاقتصادي وبوصفهما السمتين البارزتين لنوعين متباينين من النظم: النظام الربوي. والنظام التعاوني .. فهنا كذلك نجد هذا الجمع في الحديث عن الربا والحديث عن الإنفاق في السراء والضراء ..
فبعد النهي عن أكل الربا، والتحذير من النار التي أعدت للكافرين، والدعوة إلى التقوى رجاء الرحمة والفلاح .. بعد هذا يجيء الأمر بالمسارعة إلى المغفرة وإلى جنة عرضها السماوات والأرض (أعدت للمتقين) ..
ثم يكون الوصف الأول للمتقين هو: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» - فهم الفريق المقابل للذين يأكلون الربا أضعافا مضاعفة - ثم تجيء بقية الصفات والسمات: «وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ. وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ، فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ - وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ؟ - وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ .. »
والتعبير هنا يصور أداء هذه الطاعات في صورة حسية حركية .. يصوره سباقا إلى هدف أو جائزة تنال: «وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» .. «وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» .. سارعوا فهي هناك: المغفرة والجنة .. «أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» ..
ثم يأخذ في بيان صفات المتقين: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» .. فهم ثابتون على البذل، ماضون على النهج، لا تغيرهم السراء ولا تغيرهم الضراء. السراء لا تبطرهم فتلهيهم. والضراء لا تضجرهم فتنسيهم. إنما هو الشعور بالواجب في كل حال والتحرر من الشح والحرص ومراقبة اللّه وتقواه .. وما يدفع النفس الشحيحة بطبعها، المحبة للمال بفطرتها .. ما يدفع النفس إلى الإنفاق في كل حال، إلا دافع أقوى من شهوة المال، وربقة الحرص، وثقلة الشح .. دافع التقوى. ذلك الشعور اللطيف العميق، الذي تشف به الروح وتخلص، وتنطلق من القيود والأغلال ..