حسبك اللّه، فهو كافيك، وهو الذي أيدك بنصره أول مرة، وأيدك بالمؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه وجعل منهم قوة موحدة، بعد أن كانت قلوبهم شتى، وعداواتهم جاهرة وبأسهم بينهم شديدا. سواء كان المقصود هم الأوس والخزرج - وهم الأنصار - فقد كان بينهم في الجاهلية من الثارات والدماء والمنازعات ما يستحيل معه الالتئام فضلا على هذا الإخاء الذي لم تعرف له الأرض نظيرا ولا شبيها .. أو كان المقصود هم المهاجرون، وهم كانوا كالأنصار في الجاهلية .. أو كان الجميع مقصودين، فقد كانت هذه هي حالة عرب الجزيرة جميعا! ولقد وقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا اللّه والتي لا تصنعها إلا هذه العقيدة فاستحالت هذه القلوب النافرة، وهذه الطباع الشموس، إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية الذلول بعضها لبعض، المحب بعضها لبعض، المتآلف بعضها مع بعض، بهذا المستوي الذي لم يعرفه التاريخ والذي تتمثل فيه حياة الجنة وسمتها البارزة - أو يمهد لحياة الجنة وسمتها البارزة -: «وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ».

إن هذه العقيدة عجيبة فعلا. إنها حين تخالط القلوب، تستحيل إلى مزاج من الحب والألفة ومودات القلوب، التي تلين جاسيها، وترقق حواشيها، وتندي جفافها، وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق. فإذا نظرة العين، ولمسة اليد، ونطق الجارحة، وخفقة القلب، ترانيم من التعارف والتعاطف، والولاء والتناصر، والسماحة والهوادة، لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب! وهذه العقيدة تهتف للبشرية بنداء الحب في اللّه وتوقع على أوتارها ألحان الخلوص له والالتقاء عليه، فإذا استجابت وقعت تلك المعجزة التي لا يدري سرها إلا اللّه، ولا يقدر عليها إلا اللّه.

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:"إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ، وَلا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا مَا هُمْ وَمَا أَعْمَالُهُمْ إِنَّا نُحِبُّهُمْ، لِذَلِكَ قَالَ: هُوَ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلا أَمْوَالٍ يَتَقَاضُونَهَا، وَاللَّهِ إِنَّ وجُوهَهُمْ لَنُورٌ وَإِنَّهُمْ لَعَلَى نُورٍ، لا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015