وعقد رسول اللّه مع مشركي قريش صلح الحديبية - وهم على شركهم - بشروط لم يسترح إليها المسلمون، وذلك على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض، وأن يرجع عنهم عامه ذلك، حتى إذا كان العام المقبل قدمها وخلوا بينه وبين مكة فأقام بها ثلاثا، وألا يدخلها إلا بسلاح الراكب والسيوف في القرب، وأن من أتى المشركين من أصحاب النبي لم يردوه، ومن أتاه من أصحاب المشركين رده .. وقد رضي رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بما ألهمه اللّه - هذه الشروط، التي تبدو في ظاهرها مجحفة، لأمر يريده اللّه ألهم به رسوله .. وفيها متسع - على كل حال - لمواجهة الظروف المشابهة تتصرف من خلاله القيادة المسلمة ..
إن المنهج الحركي لهذا الدين يواجه الواقع دائما بوسائل مكافئة، وهو منهج متحرك مرن، ولكنه متين واضح، والذين يلتمسون فيه ما يواجهون به الواقع في كل حالة لن يضطروا إلى ليّ أعناق النصوص وتأويلها تأويلات تأباها! وإنما المطلوب هو تقوى اللّه، والتحرج من تطويع دينه لواقع الشر الجاهلي، والهزيمة به والوقوف به موقف الدفاع، وهو دين مسيطر حاكم، يلبي - وهو في مركز الاستعلاء والمبادأة - كل حاجات الواقع وضروراته والحمد للّه ..
وعند ما أمر اللّه تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقبل موادعة من وادعوه، وأن يجنح للسلم معهم متى جنحوا إليه وجهه إلى التوكل عليه، وطمأنه إلى إحاطته سبحانه بسرائر القوم المخبوءة: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
ثم أمنه من خداعهم، إن هم أرادوا خيانته، وبيتوا الغدر من وراء الجنوح إلى السلم. وقال له: إن اللّه حسبه وكافيه وحافظه وهو الذي أيده بنصره - في بدر - وأيده بالمؤمنين وجمع قلوبهم على الود والإخاء في الإسلام وكانت عصية على التآلف، لا يملك تأليفها إلا اللّه القدير الحكيم: «وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ، هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..