قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ. مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ» ..
إن هاتين الآيتين تقرران أصلا كبيرا من أصول التصور الإسلامي، ومن ثم فهما تمثلان حقيقة ضخمة في الحياة الإنسانية. ولعل الحاجة إلى جلاء ذلك الأصل، وإلى بيان هذه الحقيقة لم تكن ماسة كما هي اليوم والعقل البشري، والموازين البشرية، والأوضاع البشرية تتأرجح وتضطرب وتتوه بين ضباب التصورات وضلال المناهج، بإزاء هذا الأمر الخطير ..
إن اللّه - سبحانه - يقول لأهل الكتاب - ويصدق القول وينطبق على كل أهل كتاب - إنهم لو كانوا آمنوا واتقوا لكفر عنهم سيئاتهم ولأدخلهم جنات النعيم - وهذا جزاء الآخرة. وإنهم لو كانوا حققوا في حياتهم الدنيا منهج اللّه الممثل في التوراة والإنجيل وما أنزله اللّه إليهم من التعاليم - كما أنزلها اللّه بدون تحريف ولا تبديل - لصلحت حياتهم الدنيا، ونمت وفاضت عليهم الأرزاق، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم من فيض الرزق، ووفرة النتاج وحسن التوزيع، وصلاح أمر الحياة .. ولكنهم لا يؤمنون ولا يتقون ولا يقيمون منهج اللّه - إلا قلة منهم في تاريخهم الطويل مقتصدة غير مسرفة على نفسها «وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ».
وهكذا يبدو من خلال الآيتين أن الإيمان والتقوى وتحقيق منهج اللّه في واقع الحياة البشرية في هذه الحياة الدنيا، لا يكفل لأصحابه جزاء الآخرة وحده - وإن كان هو المقدّم وهو الأدوم - ولكنه كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا، ويحقق لأصحابه جزاء العاجلة .. وفرة ونماء وحسن توزيع وكفاية .. يرسمها في صورة حسية تجسم معنى الوفرة والفيض في قوله: «لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» ..
وهكذا يتبين أن ليس هنالك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة وطريق آخر مستقل لصلاح الحياة في الدنيا. إنما هو طريق واحد، تصلح به الدنيا والآخرة، فإذا تنكب هذا