حوله، ومصيره ومصير الكون من حوله وترده إلى كائن أعلى من هذه المادة وأكبر وأسبق وأبقى، فهي أمر آخر يتعلق بروحه وإدراكه المميز له من سائر الخلائق، والذي ينفرد به عن سائر الخلائق والذي يقرر «إنسانيته» في أعلى مراتبها حيث يخلف وراءه سائر الخلائق.
ثم إن هذه الآصرة - آصرة العقيدة والتصور والفكرة والمنهج - هي آصرة حرة يملك الفرد الإنساني اختيارها بمحض إرادته الواعية. فأما أواصر القطيع تلك فهي مفروضة عليه فرضا، لم يخترها ولا حيلة له كذلك فيها .. إنه لا يملك تغيير نسبه الذي نماه ولا تغيير الجنس الذي تسلسل منه ولا تغيير اللون الذي ولد به. فهذه كلها أمور قد تقررت في حياته قبل أن يولد، لم يكن له فيها اختيار، ولا يملك فيها حيلة ..
كذلك مولده في أرض بعينها، ونطقه بلغة بعينها بحكم هذا المولد، وارتباطه بمصالح مادية معينة ومصير أرضي معين - ما دامت هذه هي أواصر تجمعه مع غيره - كلها مسائل عسيرة التغيير ومجال «الإرادة الحرة» فيها محدود .. ومن أجل هذا كله لا يجعلها الإسلام هي آصرة التجمع الإنساني .. فأما العقيدة والتصور والفكرة والمنهج، فهي مفتوحة دائما للاختيار الإنساني، ويملك في كل لحظة أن يعلن فيها اختياره وأن يقرر التجمع الذي يريد أن ينتمي إليه بكامل حريته فلا يقيده في هذه الحالة قيد من لونه أو لغته أو جنسه أو نسبه، أو الأرض التي ولد فيها، أو المصالح المادية التي تتحول بتحول التجمع الذي يريده ويختاره ... وهنا كرامة الإنسان في التصور الإسلامي ..
ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة والحدود الإقليمية السخيفة! ولإبراز «خصائص الإنسان» في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان .. كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعا مفتوحا لجميع الأجناس والأقوام والألوان واللغات، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت وأنشأت مركبا عضويا فائقا في فترة تعد نسبيا قصيرة وصنعت هذه الكتلة العجيبة