ومع أن الرواية الأولى أوثق من ناحية السند والإخراج إلا أننا نرجح مضمون الروايات الأخرى، بالاستناد إلى الواقع التاريخي فالثابت أن منافقي المدينة لم يرد أمر بقتالهم ولم يقاتلهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو يقتلهم. إنما كانت هناك خطة أخرى مقررة في التعامل معهم. هي خطة الإغضاء عنهم، وترك المجتمع نفسه ينبذهم، وتقطيع الأسناد من حولهم بطرد اليهود - وهم الذين يغرونهم ويملون لهم - من المدينة أولا. ثم من الجزيرة العربية كلها أخيرا .. أما هنا فنحن نجد أمرا جازما بأخذهم أسرى، وقتلهم حيث وجدوا: مما يقطع بأنهم مجموعة أخرى غير مجموعة المنافقين في المدينة .. وقد يقال: إن الأمر بأخذهم أسرى وقتلهم مشروط بقوله تعالى: «فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا، فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» .. فهو تهديد ليقلعوا عما هم فيه .. وقد يكونون أقلعوا فلم ينفذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر فيهم .. ولكن كلمة «يهاجروا» تقطع - في هذه الفترة - بأنهم ليسوا من أهل المدينة. وأن المقصود هو أن يهاجروا إلى المدينة فقد كان هذا قبل الفتح. ومعنى الهجرة - قبل الفتح - كان محددا بأنه الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام والانضمام للجماعة المسلمة والخضوع لنظامها. وإلا فهو الكفر أو النفاق .. وسيجيء في سياق السورة - في الدرس التالي - تنديد شديد بموقف الذين بقوا - بغير عذر من الضعف - من المسلمين في مكة دار الكفر والحرب بالنسبة لهم - ولو كانوا من أهلها ومواطنين فيها! - وكل هذا يؤيد ترجيح الرواية الثانية. وأن هؤلاء المنافقين كانوا جماعة من مكة - أو ممن حولها - يقولون كلمة الإسلام بأفواههم، ويظاهرون عدو المسلمين بأعمالهم.
ونعود إلى النص القرآني: «فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا؟ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً. فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» ..