بالجوارح الأكباد، وانقلب ظهرًا لبطن، نبا الناظر، وجفا الحاجب، وذهبت العين، ونفدت الراحة، وصلد الزند، ووهت اليمين، وبانت المرافق، ولم يبق لنا ثنية ولا ناب.

قلت: وهذا الفصل الذي أحجم القاضي عن معارضته، قلت في معناه، وكتبت إلى سيدنا قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي -نوّر الله ضريحه- رسالة مجسدة، مشتملة على ذلك جيدة، راعيت فيها النظير، لأجل الصدر من الرأس إلى القدم، ولم أخرج فيها عن حسن الختام الذي ما ختمت رسالة بنظيره، والتزمت فيها السجع الذي فر الحريري منه في فصله. "وقد عنّ لي" أن أثبت الرسالة هنا بكمالها، وأرجع إلى ما كنا فيه من حسن الختام في المقامة الحريرية. "والرسالة هي":

يقبل أرضًا بالعلا قد تجسدت ... بأرواح أهل العلم روضة مشتهى

وهبت بأنفاس العلوم قبولها ... ولا زال صدر الدين منشرحًا بها

وينهى أن الصدر رأس العلوم، وكم له من فرق دق على الأفهام، وهو كالغرة في جباه الأيام، لا زال المجد له حاجيًا1 مقرونًا بسعده الشامل، ولا برح بعلمه عينًا لوجوه المسائل. فللَّه أهداب معانيه التي هي أسحر من عيون الغزلان، وأمضى من السيوف إذا برزت من الأجفان، وأصداغ فضائله التي هي عاطفة على وجنات الوجود، لأنها كالعوارض الماطرة، وكم أنست عند ذكره من سالفة، وكم لها في قلوب الأعداء من خدود وندى جوده الذي إذا جاءه الشارب وجد عنده شفاه، حلاوة نظمه الذي أنسانا ذكر العذيب وثناياه، وعنق مكارمه التي ألفت من البديع الالتفات؛ وأوصافه التي غدت على خد الدهر شامات، حتى تبدلت سيئاته حسنات. كف عنا تعب الفقر بكرم راحته المتزايد، من غير أن يقال له ساعد، وشهدنا بأن أياديه بحر يفيض بصنائعه. فأشار النيل إلى قبول هذه الشهادة بأصابعه. فللَّه ندى يمينه الذي لم يزل المملوك به في بلاد الشام مكفى، وكم فاض منه قلب النيل وجهد أن يوفيه بالباع والذراع فما وفى. جبلت على محبته القلوب فصار حبه ظاهرًا في كل باطن، وحنت إليه الجوارح لما سارت مناقبه إلى جانب فحركت كل ساكن، ورفع المملوك أدعيته التي هي إن شاء الله تعالى نعيم للبدن الكريم، واعتدال اللطيف ذلك المزاج، وأثنيته التي هي كالمناطق على خصور الحسان وبها لكل قلب ابتهاج, لكن تثاقلت2 عليه أرداف النوى، وأسكنت في وسط لبه الجوى وقده الانقطاع بسيفه الذي زاد في حده, ولكن جار في قده, ولو حصر المملوك

طور بواسطة نورين ميديا © 2015