القسم الثالث من التورية المهيأة: وهو الذي تقع التورية فيه في لفظين، لولا كل منهما لما تهيأت التورية في الآخر، واستشهدوا على ذلك بقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي، وهو:
أيها المنكح الثريا سهيلًا ... عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني
الشاهد، في البيت الأول، في الثريا وسهيل، فإن الثريا يحتمل أن يكون أراد بها بنت على بن عبد الله بن الحرث بن أمية الأصغر، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، وهو المراد، والقريب ثريا السماء، وهذا هو المعنى القريب المورى به، وسهيل يحتمل أيضًا سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل كان رجلًا مشهورًا من اليمن، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، ويحتمل النجم المعروف بسهيل، وهذا هو المعنى القريب المورى به، ولولا ذكر الثريا التي هي النجم لم يتنبه السامع لسهيل، وكل واحد منهما صالح للتورية.
والتورية هنا، لا تصلح أن تكون مرشحة ولا مبينة؛ لأن الترشيح والتبيين لا يكون كل منهما إلا بلازم خاص، والفرق بين اللفظ الذي تتهيأ به التورية واللفظ الذي تترشح به واللفظ الذي تتبين به، أن اللفظ الذي تقع به التورية مهيأة، لو لم يذكر لما تهيأت التورية أصلًا، واللفظ المرشح والمبين إنما هما مقوّيان للتورية، فلو لم يذكرا لكانت التورية موجودة.
وسبب نظم هذين البيتين أن سهيلًا المذكور تزوَّج الثريا المذكورة، وكان بينهما بون بعيد في الخلق، فإن الثريا كانت مشهورة في زمانها بالجمال، وسهيل بالعكس، وهذا مراد الناظم بقوله: عمرك الله كيف يلتقيان. وأيضًا هي شامية الدار، وسهيل يماني.
انتهى الكلام على التورية المهيأة وهي آخر أنواع التورية.
وهنا تنبيه فيه فائدة: وهو أن مشايخ هذا العلم قالوا: ليس كل لفظ مشترك بين معنيين تتصور فيه التورية، كاللغات التي تدور على الألسنة، وإنما تتصور حيث يكون المعنيان ظاهرين، إلا أن أحدهما أسبق إلى الفهم من الآخر.
وقد عنَّ لي أن أختم باب التورية بفائدة تكون مسكًا لختامها وبدرًا لتمامها، وهي أن بعض علماء هذا الفن قالوا، إن التورية، إذا جاءت بلازمين فتكافآ ولم يترجح أحدهما على الآخر، فكأنهما لم يذكرا وصار المعنى القريب والمعنى البعيد بذلك في درجة