فكما أن الماء لا يستطاب إلا بعد العطش، فالوصل مثله لا يستطاب إلا بعد حرارة الهجر. وأما الأقيسة الحملية فقد استنبطوها على صور، مها ما يروى أن أبا دلف قصده شاعر تميمي، فقال له: ممن أنت؟ فقال: من تميم. فقال أبو دلف:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل الهداية ضلت1
فقال له التميمي: نعم بتلك الهداية جئت إليك. فأفحمه بدليل حملي ألزمه فيه أن المجيء إليه ضلال.
ولعمري، إن القياس الشرطي أوضح دلالة في هذا الباب من غيره، وأعذب في الذوق وأسل في التركيب، فإنه جملة واقعة بعد لو وجوابها، وهذه الجملة، على اصطلاحهم، مقدمة شرطية متصلة يستدل بها على ما تقدم من الحكم، وعلى هذه الطريقة نظمت بيت البديعية، وكذلك العميان، ويأتي ذلك في موضعه، فبيت بديعية الشريف صفي الدين الحلي:
كم بين من أقسم الله العلي به ... وبين من جاء باسم الله في القسم
بيت الشيخ صفي الدين الحلي ليس لنور المذهب الكلامي فيه إشراق، ولكنه ملحق بالأقيسة الحملية.
وبيت العميان قد تقدم أنه من الأقيسة الشرطية، وهو قولهم في مديح النبي -صلى الله عليه وسلم:
لو لم تحط كفه بالبحر ما شملت ... كل الأنام وأروت قلب كل ظمي
جملة هذا البيت هي الجمل الواقعة بعد لو وجوابها، فإنهم استدلوا بها على ما تقدم من الحكم: وهو أن كفه -صلى الله عليه وسلم- محيط بالبحر، وبيان صحة ذلك أنها بلغت أن تشمل كل الأنام وتعمهم بالري، وهذا دليل واضح على أنها محيطة بالبحر.
وقد تعين أن أقدم بيت بديعيتي، هنا على بيت الشيخ عز الدين، وأفرط سبحة الترتيب لوجهين: أحدهما، أن بيتي وبيت العميان أقرا ببهجة هذا النوع في مطلع واحد، وهو القياس الشرطي، والثاني، أن الشيخ عز الدين لم يتمسك في المذهب الكلامي إلا بالقول الضعيف، وبيت بديعيتي، أقول فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم:
ومذهبي في كلامي أن بعثته ... لو لم تكن ما تميزنا على الأمم