ومنها في المديح، ولم يخرج عما نحن فيه من حسن المناسبة:

كأني في قوس لساني له يدٌ ... مديحي له فرع به أملي نبل

كأنّ دواتي مطفل حبشية ... بناني لها بعل ونقشي لها نسل1

كأن يدي في الطرس غواص لجة ... له كلمي در به قيمتي تغلو

انظر أيها المتأمل إلى ملكه هذا الشاعر المفلق، الذي ما دخل إلى بيت إلا وأسكن فيه ما يلائمه من المناسبات البديعية. نعم هذه الغايات التي تقف عندها فحول الشعراء، وهذا الإمام المتقدم الذي صلى الحريري خلفه، وأشار إليه بقوله في مقاماته:

فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بسعدى شفيت النفس قبل التندم2

ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدم

فإن البديع هو الذي سبق الحريري إلى نظم المقامات، وسبك العلوم في تلك القوالب الغريبة، وعلى منواله نسج الحريري، واستعمل بعض أسماء مقاماته، وقفى أثر عيسى بن هشام بالحرث بن همام، وعارض طرح الإسكندري بما نسجه أبو زيد السروجي، وعلى كل تقدير فالبديع عرابة هذه الراية، وعباس هذه السقاية.

نرجع إلى ما كنا فيه من حسن المناسبة في مراعاة النظير، فمن المستحسن في هذا النوع قول بعضهم في مليح معه خادم يحرسه:

ومن عجب أن يحرسوك بخادم ... وخدام هذا الحسن من ذاك أكثر

عذارك ريحان وثغرك جوهر ... وخدك ياقوت وخالك عنبر

هذا الأديب المتمكن ناسب بين العذار والثغر والخد والخال، إذ الوجه لمصابيح هذه المحاسن جامع، وبين ريحان وجوهر وياقوت وعنبر، للملاءمة في أسماء الخدام فلو ذكر شيئًا من غير تناسب كان نقصًا وعيبًا، وإن كان جائزًا، فإنهم عابوا على أبي نواس قوله:

وقد حلفت يمينًا ... مبرورة لا تكذب

برب زمزم والحو ... ض والصفا والمحصب3

طور بواسطة نورين ميديا © 2015