عفت القدود فلم أستثن بعدهم ... إلا معاطف أغصان بذي سلم1
الاستثناء، استثناءان: لغوي، وصناعي. فاللغوي: إخراج القليل من الكثير، وقد فرع النحاة من ذلك في كتبهم فروعًا كثيرة. والصناعيّ: هو الذي يفيد بعد إخراج القليل من الكثير معنى يزيد على معنى الاستثناء، ويكسوه بهجة وطلاوة، ويميزه بما يستحق به الإثبات في أبواب البديع، كقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ} 2، فإن في هذا الكلام معنا زائدًا على مقدار الاستثناء، وذلك لعظم الكبيرة التي أتى بها إبليس، من كونه خرق إجماع الملائكة، وفارق جميع الملأ الأعلى، بخروجه مما دخلوا فيه من السجود لآدم، وذلك مثل قولك: أمر الملك بكذا وكذا فأطاع أمره جميع الناس، من أمير ووزير، إلا فلانًا، فإن الإخبار عن معصية هذا العاصي بهذه الصيغة مما يعظم أمر معصيته، ويفخم مقدار كبريائه، بخلاف قولك: أمر الملك بكذا فعصاه فلان. ومثاله قوله تعالى، إخبارًا عن نوح عليه السلام: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} 3 فإن في الإخبار عن هذه المدة، بهذه الصيغة تهويلًا على السامع، لتمهيد عذر نوح عليه السلام في الدعاء على قومه، وإن في حكمة الإخبار عن المدة بهذه الصيغة العظيمة تعظيمها، لكون أول ما يباشر السمع ذكر الألف، والإيجاز في اختصار هذا اللفظ، بهذه البلاغة العظيمة، ظاهر فإن لفظ القرآن أخصر وأوجز من قولنا: تسعمائة سنة وخمسين عامًا ولفظ القرآن بتقييد حصر العدد المذكور، ولا يحتمل الزيادة.