فإنه استوفى ما أراده من المدح في الشطر الأول، ثم احتاج إلى تتميم البيت، وأراد إتمامه بتكرار المعنى المتقدم فيه استحسانًا وتوكيدًا، فأخرجه مخرج المثل السائر، حث قال: تركتني أصحب الدنيا بلا أمل، ليحصل ما أراده من التوكيد وزيادة المعنى، لأن المدح إذا خرج مخرج المثل كان أسير في الأرض. قال ابن أبي الأصبع: هذا البيت إن نظر فيه إلى قول أبي الطيب المتنبي:
تمسي الأماني صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشيء ليت ذلك لي1
فبيت ابن نباتة أفضل من بيت المتنبي، لأنه أحسن الأدب مع ممدوحه، إذ لم يجعله في حيز من يتمنى شيئًا وجعل في قدرته وجوده ما يبلغ مادحه كل أمنية، فلم يبق له أمل، وإن كان في بيت المتنبي زيادة من جهة المبالغة، في قوله: دون مبلغه، واستعارة في اللفظ، بقوله: تمسي الأماني صرعى، ففي بيت ابن نباتة أن كل ما جعله المتنبي لممدوحه، جعله ابن نباتة لمادحه، مع زيادة المبالغة في المدح، بكونه أخرجه مخرج المثل السائر كما بينا، فهو أشهر وأسير وأبقى. وإذا تأمل الناظر في البيتين وجد معنى بيت المتنبي بكماله في صدر بيت ابن نباتة، لأن حاصل بيت المتنبي أن الممدوح قدر على كل الأماني، وهذا قد استقل به صدر بيت ابن نباتة، والعجز ملزوم صدره، لأن من نال كل أمل صحب الدنيا بلا أمل، غير أن ابن نباتة لكونه أخرج العجز مخرج المثل، صار كأنه استأنف معنى آخر مستقلًا بجميع معنى بيت المتنبي، مع كونه زاد بأن جعل للمادح ما جعله المتنبي للمدوح، وهذا غاية في حسن الأدب. وقد ترجح بيت ابن نباتة على بيت المتنبي من وجوه. انتهى كلام ابن أبي الأصبع في النقد الحسن الذي قرره على بيت أبي الطيب المتنبي وبيت ابن نباتة.
وقد يختلط على بعض الناس هذه الأبواب الأربعة، وهي: باب الإيغال، والتذييل، والتمكين، والتكميل، والفرق ظاهر، فإن الإيغال لا يكون إلا في الكلمة التي فيها الروي وما يتعلق به، وهو أيضًا مما يأتي بعد تمام المعنى، كالتكميل والتذييل. وأما التمكين فليس له مدخل في هذه الأبواب، لأنه عبارة عن استقرار القافية في مكانها، لأها لا تزيد معنى البيت، بل إذا حذفت نقص معنى البيت، لأنها ممكنة في قواعده، وأما التكميل، فإنه وإن أتى بعد تمام المعنى، فهو يفارق الإيغال والتذييل من وجهين: أحدهما، كونه يأتي في الحشو والمقطاع، والإيغال والتذييل لا يكونان إلا في المقطاع دون الحشو