وأحلى موقعًا في الأذواق السليمة، ولكن قل من ظفر منه بسلامة التخلص من علق النقد، وصعد من غور التعسف إلى نجد السهولة، قال الشيخ صلاح الدين الصفدي في كتابه المسمى بـ"فض الختام عن التورية والاستخدام": ومن أنواع البديع ما هو نادر الوقوع، ملحق بالمستحيل الممنوع، وهو نوع التورية والاستخدام الذي تقف الأفهام حسرى1 دون غايته عند مرامي المرام:
نوع يشق على الغبي وجوده ... من أي باب جاء يغدو مقفلا
لا يقرع هضبته فارع2، ولا يقرع بابه قارع، إلا من تنحو البلاغة نحوه في الخطاب، ويجري ريحها بأمره رخاء حيث أصاب، على أن المتقدمين ما قصدوه جملة كافية، ولا شعروا به لما شعروا أنه دخل معهم في بيت تحت قفل قافيه، وأما المولدون من الشعراء، كالفرزدق وجرير ومن عاصرهما وخاض معهما لجة بحر البلاغة، فلم يرد أحد منهم ورد هذا الغدير، وأما الذين تفقهوا من بعدهم في الأدب، وتنبهوا لتخلل طرقه بالطلب، فربما قصدوا بعض أنواع البديع، فجادت إذ جاءت، وفاتت مرة أخرى وأخرى فاءت3، وقد قصد أبو تمام كثيرًا من الجناس، وفتح أبوابه، وشرع طرقه للناس.
وأما التورية والاستخدام فما تنبه لمحاسنهما، وتيقظ وتحرى وتحرر وتحفد4 وتحفظ إلا من تأخر من الشعراء والكتاب، وتضلع من العلوم وتطلع من كل باب، وأظن أن القاضي الفاضل رحمه الله تعالى هو الذي ذلل منهما الصعاب، وأنزل الناس بهذه الساحات والرحاب، حتى ارتشف هذه السلافة أهل عصره وأصحابه الذين نزلوا ربوع مصره، وخفقت رياحهم بالإخلاص في نصره، كالقاضي السعيد هبة الله بن سناء الملك، ومن انخرط معه في هذا السلك، ولم يزل هو ومن عاصره على هذا المنهج، في ذلك الأوان، ومن جاء بعدهم من التابعين بإحسان، إلى أن جاء بعدهم حلبة أخرى، وزمرة تترى5، فكلهم يرمون في هذا الإحسان عن قوس واحدة، وينفقون من مادة هي في الجود معن بن زائدة، ويصلون المقطوع بالمقطوع فلا تخلو فيه كلمة فائتة من فائدة، وغالب شعرهم على هذا النمط، وأكثره درر أسماع متى تلتق تلتقط، كأبي الحسين