وطلوع النِّينانِ أشبه النجوم من غوره، تبرق بريق الصوارم المسلولة، وتلمع لمعان الذوابل المصقولة، مدنّرة الأصلاب، مفضضة البطون، مذهبة الأفواه، مجزّعة العيون، تصلّ صليل السيوف في اضطرابه، وتخطر خطران الفحول بأذنابها، فاستخرجنا لحماً طرياً واشتوينا، فأكلنا هنيّاً مريّا، ورحلنا عنه، وقد تزودنا منه.
وأفضى بنا الرّكب الى رملة بيضاء، مفضية الى قرارة خضراء، تتفجر فيها عين كعين زرقاء، صفاء مائها، كصفاء إنسانها، وقد أحدق بها النبت كهدب أجفانها، فنهلنا من نميرها، وكرعنا في غديرها، وركزنا رماح الخط، وجعلنا عالينا رباط العصب، وافترشنا مطارف الوشي فوق درائك العشب وجعلنا من اللُّجُمِ أوتاداً موتودة، واتخذنا من الأعنّة أسباباً ممدودة، فقام الخِبا، واستوى البِنا، والماء يقهقه في خريره، والقمري يُقرقر في هديره، والنسيم يعبق عن الروض الزكي، والجو مضمخ بزعفران العشي:
تشدو بعيدان الأراك حمامة ... شدو القيان عزفن بالأعواد
مال النسيم بغصنه فتمايلت ... مهتزة الأعطاف والأجياد
هذي تودع تلك توديع التي ... قد أيقنت منها بوشك بعاد
واستعبرت لفراقه عين النّدى ... فابتل مئزر غصنها الميّاد
وإنّا لكذلك، إذ برقت السماء فسلت مُذهب نصولها، ورعدت فضربت مُنذِرَ طبولها، وجعل يُعَبّئُ مواكبه، وأخذ الرباب يرتب كتائبه،