فأرسلنا أولى الخيل على آخرها، وخلينا إياها، فمضت مضي السهام، وهوت هوي السلام، وهي تجول في أجوالها يميناً وشمالاً، فكأنّما أنتجت لآجالها آجالاً، فغادرناها بين جريح مضرج بدمائه، وقتيل يجود بذمائه.
فنزلنا معرسين، وأقمنا مخيمين، وشبت النار، وتناثر الشرار:
وظل طهاة اللّحم من بين منصف ... صفيف شواء أو قديد معجّل
فلما قرب، وصُفّ الشواء وصهب، تعاطينا لحماً كالعقيق، وتهادينا شحماً كالشقيق ثم قام كلّ الى جواده يمَشُّ بعرفه كفّيه، ويمسح لشُعَبِه بين عينيه، ونحن إذ ذاك بحيث تضاحك الورد والبهار، وتفاوح النور والأنوار، وأرضنا بمخضر نبت صاغ النور تاجه، وحاك القطر ديباجه، وسماؤنا غُداقِيَةُ الإهاب، جامعة السحاب، فماء النّدى مسكوب، ورواق الطل مضروب، والريح تصفق والغصن يتثنى، والقنبرة تصرصر والبلبل يتغنى، وقد خيم السرور، وجعلت الكأس تدور، ولا حديث لسقاتها، غير هاك وهاتها:
إذ دعا النّدمان ظبياً سقني ... فضلة الكأس فقد طال العطش
من سلاف سلفت في دنّها ... قبل عاد وهي صرف لم تغش
من يدي ساق يحاكي خده ... قهوة فيها حباب كالنمش
خلع الياقوت ثوباً فوقها ... وكساها وشيه جلد الحنَش