استوهب الله لك أيها العماد الأعلى، والسراج الأجلى، والطود الأشم، والبدر الأتم، من النعم أبقاها، ومن العصم أوقاها، لا زلت لعنان السيادة مالكا، ولمنهاج السعادة سالكا، كتبت أعزك الله والود قائم رسمه، لائح وسمه، وإن كانت الأيام قد أزاحتني عن قربك، وأظمأتني إلى شربك، فإنها لم تلحق وثاقة عقدنا انحلالا، ولا صحة عهدنا اعتلالا، ولو جرت الأقدار على اقتراحي، وأطلقت من الأشغال سراحي، لاخترت مجاورتك، وآثرت محاورتك، فإنك بحر تلفظ الجواهر غواريه، وتعذب للوارد مشاربه، فيصدر عنك وقد ملأ من الدر حقائبه، وأثقل من البر ركائبه، والله يقرب لقاءك ويدنيه، ويهنئه على أفضل حال ويسنيه، وفي علمك ما استودعته أمانتك، واستحفظته صيانتك، من كتبي التي هي أنفس ذخائري وأسراها، وأحقها بالصيانة وأحراها، وما كنت أرتضي منها بالتغريب، لولا الترجي لمعاودة الطلب عن قريب، ولا شك أنها منك تنال، وبمكان تهمم واهتبال، ولكن ربما طرقها من مردة الفأر طارق، وعاث فيها كما يعيث الفاسق المارق، فينزل فيها قرظاً، أو يفسد منها طولا وعرضا، إلا أن يطوف عليها هر نبيل، ينتمي من القطاط إلى أنجب قبيل، له رأس كجمع الكف، وأذنان قد قامتا على صف، ذواتا لطافة ودقة، وسباطة ورقة، يقيمهما عند التشوف، ويضجعهما عند التخوف، ومقلة كأنها تقطيعة من الزجاج المجزع، وكأن ناظها من عيون الباقلاء منتزع، قد استطال الشعر فوق أحداقه، وحول أشداقه، كإبر مغروزة على العيون، كما تبرد أطرافه القيون، له ناب كحد المطرد، ولسان كظاهر المبرد، وأنف أخنس، وعنق أوقص، وحلق سرق، غير ملتصق، أهرت الشدقين، لاحق الأطلين، موشى الساعدين والساقين، منمنم اليدين والرجلي، يرجل بها وبره ترجيل ذوي الهمم، لما شعث من اللمم، فينفض ما لصق به من الغبار، وعلق به من الأوبار، ثم يجلوه جلاء الصيقل للحسام، والحمام للأجسام، فينفي قذاه، ويواري أذاه، ويقعي إقعاء الأسد إذا جلس، ويثب وثبة النمر إذا اختلس، له ظهر شديد، وذنب مديد، تارة يهزّه هزّ السمهري المثقف، وتارة يلويه لي الصولج المعقف، تجول يداه في الخشب والأرائك، كما يجول في الكسائد شائك، يكب على الماء حين يلغه، ويدني منه فاه ولا يبلغه، ويتخذ من لسانه رشاء ودلوا، ويعلم به إن كان الماء مرا أو حلوا، فتسمع للماء خضخضة من نزعه، وترى للسان نضنضة من جرعه، يحمي داره حماية النقيب، ويحرسها حراسة الرقيب، فإن رأى كلبا، صار عليه إلبا، وصعر خده، وعظم قده، حتى يصير نده، أنفة من جنابه أن يطرق، وغيرة على حجابهأن يخرق، فإذا رأى فيه هرا، أوجف إليه مكفهرا، فدافعه بالساعد الأشد، ونازعه منازعة الخصم الألد، فإذا أطال مفاوضته، وأدام مراوضته، أبرز برثنه لمبادرته، وجوشنه لمصادرته، ثم تسلل إليه لواذا، واستحوذ عليه استحواذا، فشد عليه شدة، وضمه من غير مودة، فأطار وبره نسالا، وأرسل دمه إرسالا، بأنياب عصل، أمضى من النصل، ومخلب كمنقار الصقر، درب للأقتناص والعقر، ففر قرنه ممزق الإهاب، مستبصرا في الذهاب، قد أفلت من بين أظفار وناب، ورضي من الغنيمة بالإياب، هذا وهو يخاتله دون جنة، ويقابله بلا سيوف ولا أسنة، وإنما جنته، منته، وشفاره، أظفاره، وسنانه، أسنانه، إذا سمعت الفأر منه مغاء، لم تستطع له إصغاء، وتصدعت قلوبها من الحذر، وتفرقت شذر مذر، تهجع العيون وهو ساهر، وتستثير الشخوص وهو ظاهر، يسري من عينيه بنيرين وضاحين، تخالهما في الإظلام مصباحين، يسوف الأركان، ويطوف في كل مكان، ويحكي في ضجعته السوار تحنّيا، وقضيب الخيزران تثنيا، يغط إذا نام، ويتمطي إذا قام، لا يكون للنار مستدفئا، ولا للقدر مكفئاً، ولا الرماد مضطجعا، ولا للجار منتجعا بل يدبر بكيده، ويقتصر على صيده، قد تمرد بقتل الأحناش والخشاش، وافترس الطير في المسارح والأعشاش، فيستقبل بمشمه، ويجعل الاستدلال أكبر همة، ثم يكن للفأر حيث يجد لها عيثا، أو يسمع لها عوثا، أو يلمح منها ريثا، فيلصق بالأرض، وينطوي بعضه في بعض، حتى يستوي منه الطول والعرض، فإذا تشوفت الفأر في جحرها، وأشرفت بنحرها وصدرها، دب إليها دبيب الصل، وامتد نحوها امتداد الظل، ثم وثب في الحين عليها، وجلب الحين إليها، فأثخنها جراحا، ولم يعطها براحا، فصاحت من شدة أسره، وقوة كسره، وكلما كانت صيحتها أمد، كانت قبضته عليها أشد، حتى يستأصل