من بعدِ نعمةَ لم تنعم بلذّتها ... نفسي ولا بردت من لوعة كبدي
قد أسس البين عندي منزلي ولهٍ ... فمهجتي للجوى والعين للسّهد
وأرّق البعد جفني ثم فرّقني ... فالجسم في بلدٍ والروح في بلد
أخي ومولاي علّ الدهر يجمعنا ... بمنزلٍ عن جميع الشرّ مبتعد
شوقي إلى لقائك شوق الظمئان الى الماء الزلال، وارتياحي الى ما يرد من تلقائك ارتياح السقيم الى الصحة والإبلال، وتلهفي على فراقك تلهف الحيران، وتأسفي على بعدك تأسف الولهان، لكنني إذا رجعت الى شاهد العقل، وعدلت الى طريق العدل، يمازج قلبي سروراً، ويخالط شوقي بهجة وحبوراً، بما ألهمك الله تعالى إليه من صفاء النية والإخلاص، والظفر بأمل النجاة والخلاص، وأتلو عند ذلك (يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً) ثم أرجع الى قول النبي صلى الله عليه وسلم (الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن) ، فأعلم أن الأمور كلها مقدرة، وأنه في اللوح مسطرة فأفزع الى الدعاء لمقدر الأمور، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أن يحسن لنا العقبى، ويقضي لنا بالحسنى، ويسبل علينا من العافية ستراً سابغاً ضافيا، ويوردنا من السلامة مورداً سائغاً صافيا، وأن يقرب بك الاجتماع، حيث يوجد الاستمتاع، بما تقرّ به الأعين وتلذّ الأسماع.
فصل من رسالة أخرى في العتب قد عاملني في مشاهد هذه الأيام، التي قمعت الخاص والعام، بأشياء لو جرت بيني وبينه على خلوة لعددتها من لذيذ الأنس، لكنها أتت في الملا بما آلم النفس، واحتملت ذلك منه رجاء أن يقلع عنه، فازداد لجاجة، وازددت حراجة، حتى استفحل الثُغاة عليّ بسبب ذلك المزاح، واستنسر البغاث إليّ وهزّ الجناح، ولو شئت حينئذ لعرفت كل واحد بما جهله من أبوّته وقيمته، وأعلمته بما لم يعلمه من خُلقه وشيمته:
فمن جهلت نفسُه قدرَه ... رأى غيرُه فيه ما لا يرى
لكنني أغضيت على موجع القذى، وصبرت على مفجع الأذى، وأعرضت عن أشياء لو شئت قلتُها. ولو قلته لم أبق للصلح موضعاً، وأنا أحرص على صحبته ممّن يرعاها حق رعايتها، وأروم حفظ ذلك بالمحافظة على ما سلف بيننا من المصافاة، والاعتداد بما له قبَلي من الحقوق المثبتة بخالص المؤاخاة، وأطرح ما أعاين من الزلات والهفوات، فأحب أن يحسن الظن بي، والذكر عني، فإن فعل ذلك فعل الأشكل به والأليق بأدبه، والأولى بجميل مذهبه، وقد أطفأت عن قلبي هذه المعاتبة ناراً موصدة، وبردت من صدري غلة موقدة.
مسترقّ أياديها، يرغب الى شريف معاليها، أن تحلّه من نفسه النقيّة محل المصطنعين المخلصين، وتنزله من حضته الرئيسية منزلة الأولياء المختصين، فإنّ غرس فضلها السابق إليه أثمر عنده شكراً وحمداً، وأثبت لديه محبة ووداً، وهو يقسم بالله العظيم، إنه من موالاتها لعلى صراط مستقيم، ومن الإقرار بفضلها لعلى منهج قويم، ومن الدعاء لها لعلى حال مقيم، وكيف لا يكون كذلك وقد صيّره سالف إحسانه في الرق، وملكه فارط امتنانه ملك المستحق، فهو لا يفتر من جميل شكرها لساناً، ولا يخلي من خلوص ودّها جنانا.
أبو حفص
عمر بن حسن النحوي الصقلي
ذكر أنه شيخ لغة ونحو، وله في علمهما سبْحُ صحة وصحو، حصل في اعتقال الإفرنج في صقلية، وسيم أنواع البليّة، وشعره متناسب الحَوْك، متناسق السلك والسبك، وله قصيدة في مدح روجار، صاحب صقلية، وهو في قبضة الإيسار، أولها:
طلب السّلوّ لوَ انّ غير سُعادِه ... حلّت سويدا قلبه وفؤادِه
ورجا زيارة طيفها في صدّها ... وغرامُه يأبى لذيذَ رقاده
والله لولا المَلْك روجار الذي ... أزدى لحبيّه عظيمَ وداده
ما عاف كأسَ الوجد يومَ فراقها ... ورأى محيّا المجد في ميلاده
ومنها في المدح:
يهتزّ للجدوى اهتزاز مهنّد ... يهتزّ في كفيه يوم جلادِه
ويضيء في الديجور صبحُ جبينه ... فتخال ضوءَ الشمس من حسّاده
ومطالع الجوزاء أرض خيامه ... والنجم والقمران من أوتاده
وإذا الأمور تشابهت فلعَضْبه ... خطٌ يبيّض سودَها بمداده
ومنها: