فإنْ تَكُ أَصْنافُ الْقَلائِدِ جَمَّةً ... فما يَتَساوى دُرُّها وَعَقيقُها
وقصيدته التي في أبي النجم هبة الله بن بديع الأصبهاني وزير الملك تتش، وكان قد سافر إلى العراق معه من دمشق، وورد الري، وأنشده إياها بها في سنةٍ ثمانٍ وثمانين وأربعمائةٍ، كل بيتٍ منها لؤلؤٌ في سمطٍ، وبيت المخلص واسطته، وما سمعت أحسن من مخلص هذه القصيدة، وهو:
وَخَيْلٍ تَمَطَّتْ بي وَلَيْلٍ كَأَنَّهُ ... تَرادُفُ وَفْدِ الْهمِّ أَوْ زاخِرُ الْيَمِّ
شَقَقْتُ دُجاهُ وَالنُّجومُ كَأَنَّها ... قَلائِدُ نَظْمي أَوْ مَساعي أَبي النَّجْمِ
حكى لي مجد العرب العامري قال: كان عندنا بالشام كاتبٌ يعرف بابن القدوري، ذكر أنه لما رماه القدر، بالفقر الكاسر للفقر، فأعرق في أيام السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه، سقاها الله، منتجعاً؛ وانتحل هذه القصيدة، وقصد الصدر الشهيد عزيز الدين أحمد بن حامدٍ، عمك؛ وهو حينئذٍ يتولى استيفاء المملكة، وأنشده إياها، فاهتز لها، فلما بلغ إلى المخلص وقد غيره بأبياتٍ ضعيفةٍ ركيكةٍ، أطرق العزيز ساعةً، وقام ودخل، ثم خرج وجلس، وأدناه إليه وقال: اصدقني لمن هذا الشعر؟ وفيمن قيل؟ حتى تنتفع؟ فحدثته بحديثي وقلت: ما عرفت إلى معروفك من وسيلةٍ، خيراً من ادعاء فضيلةٍ، وما أنا من أرباب النظم، وهذه القصيدة لابن الخياط في أبي النجم، وأنشدته المخلص، ونقدت على محك فضله الإبريز المخلص، فظهرت تباشيره، وأنارت أساريره، وأمر لي بمائة دينارٍ أميريةٍ، وجوائز سنيةٍ، وثوبٍ أطلس مذهبٍ، وبركان قصبٍ، وصار ينوه بذكري في العسكر، وينبه على قدري، ويقول: شاعرٌ مجيدٌ، وفاضلٌ مفيدٌ، حتى اكتسبت أموالاً، وحليت حالاً، ونعمت بالنعمة بالاً. وكان يقول: أنا إلى الآن في نعمة العزيز.
ويناسب هذه الحكاية حكايةٍ أخرى سمعتها منه، وأرويها عنه، قال: كان من شعراء العصر، تاجرٌ سافر إلى مصر، فغرقت بضاعته في البحر، ونجا بنفسه حاملاً أعباء الفقر، فلم يمكنه قول الشعر، لضيق الصدر، فانتحل قصيدة عبد المحسن الصوري في الوزير المغربي التي جمع فيها بين الرقة واللطافة والجودة والصناعة. وهي:
أَتُرى بِثأْرٍ أَمْ بِدَيْنِ ... عَلِقَتْ مَحاسِنُهُ بِعَيْني
في لَحْظِها وَقَوامِها ... ما في الْمُهَنَّدِ وَالرُّدَيْني
وَبِوَجْهها ماءُ الشَّبا ... بِ خَليطُ نارِ الوْجَنْتَيَنْ
بَكَرَتْ عَلَيَّ وَقَالَتِ اخْ ... تَرْ خَصْلَةً مِنْ خَصْلَتَيْنِ
إمّا الصُّدودَ أَوِ الْفِرا ... قَ فَلَيْسَ عِنْدي غَيْرُ ذَيْنِ
لا تَفْعَلي إنْ حانَ حَيْنُ ... كِ أَوْ فِراقُكِ حانَ حَيْني
فَكأَنَّني قُلْتُ انْهَضي ... فَمَضْت مُسارِعَةً لَبِيْني
ثُمَّ اسْتَقَلَّتْ أَيْنَ حَلَّتْ ... عِيُسها رُمِيَتْ بِأيْنِ
وَنَوائِبٍ أَظْهَرْنَ أَيّ ... امي إِلَّي بِصورَتَيْنِ
سَوَّدْنَها وَأَطَلْنَها ... فَرَأَيْتُ يَوْماً لَيْلَتَيْنِ
هَلْ بَعْدَ ذِلكَ مَنْ يُعَرِّ ... فُني النُّضارَ مِنَ اللُّجَيْنِ
فَلَقَدْ جَهِلْتُهُما لِبُعْ ... دِ الْعَهْدِ بِيْنَهُما وَبَيْني
مُتَصَرِّفاً بالشِّعْرِ يا ... بِئْسَ الْبِضاعَةُ في الْيَدَيْنِ
كانَتْ كَذلِكَ قَبْلَ أَنْ ... يَأْتي عَلِيُّ بْنُ الْحَسْينِ
فَالْيَوْم حالُ الشِّعْرِ ثا ... لِثَةً كَحالِ الشِّعْرَيَيْنِ
إلى آخر القصيدة. قال: فمدح بها الشاعر كبيراً يدعى ذا المنقبتين، وزاد فيها بيتاً آخر وهو:
وَلَكَ المْناقِبُ كُلُّها ... فَلِمَ اخْتَصَرْتَ عَلَى اثْنَتَينِ؟
فأحسن إليه وأكرمه، وأمر له بجائزةٍ سنيةٍ، فلامه بعض خواصه وقال: هذا شعر عبد المحسن الصوري، فقال: إنما أعطيته لهذا البيت الواحد، فإني أعلم أنه له.