عُمْرانُ عَدْلِكَ لِلْبِلادِ كأَنَّما ... قَدْ عاشَ في أيَّاِمَك العُمَرانِ

خَلَّدْتَ في الآفاقِ ذِكْراً باقِياً ... أَبَدَ الزَّمانِ بِبِذْلِ مالٍ فانِ

وسار إلى مرعش، وفارق دمشق في أطيب فصولها أيام المشمش فكتبت إلى بعض أصدقائي بها:

كِتابي فَدَيْتُكَ منْ مَرْعَشِ ... وخَوْفُ نَوائِبِها مُرْعِشي

وما مَرَّ في طُرْقِها مُبْصِرٌ ... صَحيح النَّواظِرِ إلاّ عَشِي

وَما حَلَّض في أَرْضِها آمِنٌ ... مِنَ الضَّيْمِ وَالضُّرِّ إلاّ خَشِي

تُرَنِّحُني نَشَواتُ الْغَرامِ ... كأَنَّيَ مِنْ كَأْسِهِ مُنْتَشِ

أَبِيتُ وَنارُ الأَسى مَضْجَعي ... وَأُمْسي وَجَمْرُ الغَضا مَفْرَشي

وَأُصْبِحُ وَلْهانَ وَجْداً بِكُمْ ... كَأَنَّي مُصابٌ عَلَيْهِ غُشِي

أُسِرُّ وَأُعْلِنُ بَرْحَ الْجَوى ... فَقَلْبي يُسِرُّ وَدَمْعي يَشِي

وَلَيْلِيَ مِنْ طُولِ من أُشْتَكي ... كَلَيْلِ اللَّديغِ منَ الْحِرْبِشِ

وَلْيسَ سِوى ذِكْرِكُمْ مُؤْنِسي ... وَلكِنَّ بُعْدَكُمُ مُوحِشي

بَذَلْتُ لَكُمْ مُهْجَتي رشْوَةً ... فحاكِمُ حُبِّكُمُ مُرْتَشِ

وكَيْفَ إلى وَصْلِكُمْ أَهْتَدي ... وَخَطْبُ فِرِاقِكُمُ مُدْهِشي

وَكَيْفَ يَلَذُّ الْكَرى مُغْرَمٌ ... بِنارِ الْغَرامِ حَشاهُ حُشِي

بِمَرْعَشَ أَبْغي وَبَلُّوطِها ... مُضاهاةَ جِلِّقَ والْمِشْمِشِ

فسارت هذه القصيدة؛ بل القطعة، ونمي إليه ثمر حديثها، فاستنشدنيها ونحن سائرون في وادٍ كثير الأشجار أثيثها، فقلت له: إنما قلتها في مدحك شكراً لصحبتك لا شكاية، وأنشدتها مع بيتين بدهت بهما في الحال وهما:

وَبالْمَلِكِ الْعادِلِ اسْتَأْنَسَتْ ... نَجاحاً مُني كُلِّ مُسْتَوِحشِ

وَمافي الأَنامِ كَريمٌ سِواهُ ... فَإنْ كُنْتَ تُنْكِرُني فَتِّشِ

وعرفته أن وحشة الغربة بخدمته أنسٌ، وأن الفصحاء عن شكر معاليه خرسٌ.

ولما شرع في ختان ولده الملك الصالح، ووافق ذلك عيد الفطر سنة تسعٍ وستين، وتوفي بعده بعشرة أيام، قلت فيه من قصيدةٍ أولها:

عِيدانِ: فِطْرٌ وَطُهْرُ ... فَتْحٌ قَريبٌ، وَنَصْرُ

ذا مَوْسِمٌ لِلأَماني ... بِالنُّجْحِ مُوفٍ مُبرُّ

وَذاكَ مَوْسِمٌ نُعْمى ... أَخْلافُها تسْتدرُّ

هذا مِنَ الصَّوْمِ فِطْرٌ ... وَذاكَ لِلصَّوْمِ تَدْرُ

نَجْلٌ عَلى الطُّهْرِ نامٍ ... زَكا لَهُ مِنْكَ نَجْرُ

وَكيْفَ يُعْمَلُ لِلطّا ... هِرِ المُطَهَّرِ طُهْرُ؟

ونطقت فيه بما كان في سر القدر حيث قلت:

هذا الْخِتانُ خِتامٌ ... بِمِسْكِهِ طابَ نَشرُ

وَذا الطّهورُ ظُهورٌ ... عَلَى الزَّمانِ وَأَمْرُ

فالولد بكرة الخميس ختن، والوالد ضحوة الخميس الآخر دفن، وبالخير لهذا ابتدي ولذاك ختم، لكن بنيان ملكه هد وهدم.

وكتبت عقيب وفاته إلى أصدقائي ببغداد قصيدةً أتشوقهم فيها، وأرثي نور الدين، أولها:

تُرى يَجْتَمِعُ الشَّمْلُ؟ ... تُرى يَتَّفِقُ الوَصْلُ؟

تُرى الْعَيْش الّذي مَرَّ ... مَريراً بَعْدَهُمْ يَحْلو؟

تُرى مِنْ شاغِلِ الهَمِّ ... فُؤادي الْمُبْتَلي يَخْلو؟

بَغْيري شُغِلوا عَنّي ... وَعِنْدي بِهِمْ شُغْلُ

وَكانوا لا يَمَلُّونَ ... فما باُلُهمُ مَلُّوا؟

وَراموا سَلْوَةَ الْمُغْرَ ... مِ والْمُغْرَمُ لا يَسْلُو

إذا ما كُنْتُ لا أَسْلُوا ... فماذا يَنْفَعُ الْعَذْلُ؟

أَلاَ يا قَلْبُ إنَّ الْعِزَّ ... في شَرْعِ الهَوى ذُلُّ

وَما دَلَّ عَلَى ذلكَ ... إلاّ ذلِكَ الدَّلُّ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015