فلما تأملها وراقه حسن خطها قبلها، وسأل عني، فوصفت له فاستدعاني، وولاني عمله واستكتبني أولاً، ثم استكفاني فجعلني له في مملكته معتمداً عليه مولاً، وقلد السماع في حقي فقلدني، ورآني أسد سهمٍ لأغراض الإصابة فسددني، واعتقد أنه ظفر مني بمن ما له نظير، وافتقد مملكته فإذا روضها عندي بآثار البراعة واليراعة نضير، وكان يظن أن الشمس من أفقي بازغة، وأن حجة ملكه من خلقي بالغة، وما زلت معه من الله في زيادةٍ ونموٍ، وسعادةٍ وسمو إلى أن حج إلى كعبة الخلد، وزج في تربة اللحد، وطار من عش العيش إلى فناء الفناء، وانتقل من دائرة الدوائر إلى مركز البقاء، ودار الجزاء، وذلك يوم الأربعاء حادي عشر شوال سنة تسعٍ وستين وخمسمائة بدمشق، فضاعت المملكة، وذاعت الهلكة، ورفعت البركة، ونفعت لأمثالي في الانتقال الحركة، وانحلت حبي الأحقاد من الحساد، وتبدل بالاختلال السداد، وزمت نحوي ظعائن الضغائن، ونثلت لنضالي كوامن الكنائن، وعاد الحاسد للزرع، حاشداً للجمع، واختل النظام، واختلف اللئام، واستضعف الكرام، وطغى الطغام، وضعا الإسلام، ورعى الرعاع مراعي المراء، وبدت في ظلم الظلم أضواء الضوضاء، وحلبت حلب أخلاف الخلاف، وبغي البغاة إتلاف شخص الائتلاف، وعاد الشيطان الرجيم شهاباً راجماً، وأصبح مدمع أخي الفضل ساجماً، وأمسى شر أهل الجهل ناجماً، فعزمت على الترحل، وأزمعت السير إلى الموصل، ونويت العود إلى العراق، مأوى الرفاق، أهل الوفاء والوفاق، وسألني الكريم ابن الكريم جلال الدين ابن جمال الدين الوزير أن أقيم عنده شهراً، فأنست به ووجدته في المروءة والكرم والعلم بحراً ثم وصل إلي البشير بوصول الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب أعز الله سلطانه، ورفع بقمع شانيه شانه إلى الشام، وإعادته إلى أحسن حالاته وحلاه في النظام، وافترار ثغور الثغور الإسلامية عن ثنايا الثناء عليه، واضرار الجماعة لما كانوا فيه من الاضطراب إليه، وأنه قد هذب ما تشذب، وشعب صدع ما تشعب، وهضم من هضم، وقصم من خصم، وجمع ما تفرق، ورقع ما تخرق، وأطفأ الإحن المشبوبة، وعفى المحن المجلوبة، وأنه قد جل قدر جلق به، وهو حقاً سلطان الإسلام كما نزل من السماء في لقبه، فقلت لصاحبي هذا أوان سفور وجه الأمل، وزمان إسفار صبح الجذل، ولو كنت اليوم ببغداد وسمعت بوصوله، لأسرعت إلى قصده، وكرعت من ورده، وأترعت من عده، فأسرج الخيل، وأدلج الليل، وفارق الوشل واطلب السيل فإن العود أحمد، ومن يقعد يجمد، والجمر متى لم تهجه يخمد، والماء متى لم تجره يركد، والسيف وقت الحاجة لا يغمد، والقلب إن منعته السؤل يكمد، ثم ثنيت عناني راجعاً، وما ونيت فيما عناني مسارعاً، وجبت التنائف، وجزت المخاوف، وقطعت الغياهب إلى الفجر، والجداول إلى البحر، والثماد إلى الغمر، والنقاد إلى الهزبر، والظلماء إلى الصبح، والبخلاء إلى السمح، فربحت صفقتي، ونجحت سفرتي، وحليت حالتي، وتهللت هالتي، فتلقاني الملك الناصر برحبه، وبر حبه، ورفع حظوظي من الحضيض، وأهدى الصح لرجائي المريض، وأعاد المدرسة التي كنت مدرسها إلي، وحكمني في ديوانه وعول في سلطانه علي، ورعي في معرفة أسلافه لأسلافي، وجعل السعود في جميع المقاصد من أحلافي، ولقد كان قصدي في مبتدأ الأمر لوالده نجم الدين أيوب وعمه أسد الدين شيركوه، بوأهما الله رياض رضوانه، وغرفات غفرانه، لمعرفتهما بعمي صدر الصدر الشهيد عزيز الدين فإنه لما اعتقل بقلعة تكريت وكانت ولايتهما إليهما رداً عنه الردى، وذادا عن قصده العدى، وبقي عندها مدةً يجتهدان في الدفاع عنه، والعدو ينفذ إليهما في أمره وهما على الامتناع منه، حتى حضر بهروز الخصي صاحب القلعة بنفسه، وأحضر معه من الملاحدة من أظهر في غير الملأ حدة فرسه، وتم عليه المكروه وهما كارهان، وفارقا تكريت بعد ذلك الأوان، وكانا كلما ذكراه، رحمهما الله، يشيدان بذكر ما شاهداه من مشاهد كراماته، في شهود خلواته، وسجود صلواته.