وشعر الشاميين أصح وزناً، وأسح مزناً؛ وأمتن صيغةً، وأحسن صبغةً، وأحكم صنعةً، وأسلم رقعةً؛ وأرفع نسجاً، وأنفع مزجاً، وأقوم معنىً، وأحكم مبنىً، فإن العراقيين، بغاية لطفهم، ونهاية ظرفهم، غلبت الرقة على كلامهم حتى اعتل نسيم نسيبهم، وانماعت في ماء اللطف صناعة ترتيبهم وتهذيبهم، فكأن نظمهم روحٌ بلا شبح، وراحٌ بلا قدح. وأما أهل الشام فإن جبلة جبلهم اقتضت لهم إحكام الحكم، وأفضت بهم إلى إتقان الكلم، وقصدوا الإمعان في المعاني، وخلوا للمجان حلاوة المجاني، فخشنوا ولانوا، وعزوا وهانوا، ودنوا وما دانوا، وبعدوا وما بانوا وأبدعوا، فأولئك رقوا، وهؤلاء دقوا، على أن أهل العراق إذا ندر فيهم من ملك من الرقة رقها، وأعطى الصنعة حقها فاق الكل وفات، وأرى في صورة نظمه من اللذات الذات، لكن الطبع للعرب أغلب، وأنبع من الغرب أصوب وأصلب، والعراق أعرب وأعرق، والشام أغرب وأغرق، وفضلاء الإقليمين أعيان، وملء قلائدهم درٌ وعقيان، وحشوُ فرائدهم لؤلؤٌ ومرجان، ولكل زند اقتداحٌ، ولكل قريحةٍ اقتراح، ولكل خاطرٌ خطرٌ، ولكل ناظرٍ نظرٌ، وصناعة الشعر مختلفةٌ، وأربابها متفاوتةٌ، وللشعراء فيما يحسنون مراتب، وللناس فيما يعشقون مذاهب، والغرائز من الله مواهب، ولشموس القرائح ورياضها مشارق ومشارب، والبواعث لمواضيها صياقل، والحوادث عن مراميها حوائل، والدواعي لها دواعم، والمعالي لأهلها معالم.

ولقد كان مجد العرب العامري حين كان بأصفان في سنتي ثلاث وأربع وأربعين يثني على فصحاء الشام ويفضلهم على سواهم، وينجذب إلى جانب هواهم، ويظهر بإنشاد بدائعم، وإيراد صنائعهم ما فضلوا به من القوى في القوافي، وبعد المطار بقوادم القدرة فيها الخوافي، وينشر من مفصلات ابن الخياط كل وشيٍ مذهب الطراز، ويورد من قسيات القيسراني كل ما يشهد أعجاز صدور عصره بحسن صدوره والأعجاز، وينير لنا من محاسن ابن منير ما يترنح ويتملح له عطف الأهتزاز، وطرف الإعتزاز، ويعدد ويشدد، ويكرر التعصب لهم ويردد، ويعلل له وأنا أطالبه بالتأثير، ويبرز الإخالة والمناسبة بحسن التعبير ويقول: من كابن حيوس، لا سيما في متح معين المدح، وكابن سنان الخفاجي في إنارة سنا خاطره السمح، وهل للعراقيين رقة عبد المحسن الصوري المحسن في إبداع الصور، واختراع الغرر، ومن أدرك مغزى الغزي الذي ينظم الدرر، في سلك المعنى المبتكر، وهل كان البحتري إلا من الشام، وكذلك أبو تمام؟. فقلت إن له العراق أعدى بالرقة حبيباً والوليد، ومن يقاوم من أولئك أبا الطيب إذا أنشأ القصيد؟ وكيف رضيت بإهمال الرضي والمرتضى، والفضلاء المتقدمين الذين أفق زمانهم بهم أضأ، وإنما لكل عصرٍ عصارة، ولكل زمانٍ بأفاضل بنيه نضارة وغضارة، ولكل مكانٍ مكين، ولكل معانٍ معين، ولكل أرضٍ روض، ولكل فهم في حوض العلم خوض.

وكنت مدة مقامي في بغداد أتشوق إلى تلقاء الشام، وأود لقاء أهل الفضل الكرام، حتى وصلت إلى دمشق في شعبان سنة اثنتين وستين وخمسمائة فوجدت الشام عادماً للعلماء والأعلام، وصادفته قد صدف عنه الفضل، وصدح به الجهل، خاوياً على عروشه، خالياً من نقوشه، لا يلفي به آلف، ولا يعرف لذوي المعرفة عارفٌ، فكدت أضيع، وكيف لا وقد اتضع الرفيع، وارتفع الوضيع، فنزلت بحجرة، وأويت من مدرسةٍ في دمشق إلى حجرة، وحصلت مما ذهبت به سرقة موجودي في غمرة، ومنيت بالكربة، في الغربة، وانسدت علي طريق الأوبة، للنبوة التي عرت في النوبة، فقصدت ملكها العادل نور الدين أبا القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر أنزل الله عليه رحمته، وبل برذاذ رضاه تربته، بقصيدةٍ موسومة على اسمه أولها:

لَوْ حَفِظَتْ يَوْمَ النَّوَى عُهُودَها ... ما مَطَلَتْ بِوَصْلها وُعودَها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015