ومن جملة ما أحكيه، لتحفظه عني وترويه، أن عطا عط الله فاه، كما عط بالدرة قفاه، وعن قليل يعيش فتراه، أفرط في ذمي، بعد أن ولغ أمس في دمي، وأخذ يفاضل بيني وبين كلب لو عقرني لأنفت أن أزجره، ولو عبدني لتعاليت أن أذكره، ولم يرض المأبون أن نتساوى عنده في المنزلة، حتى علي فضله، ولا شك أنه كشف عن شاقوله فشقله، ونسفه بعد ذلك وكربله، ثم إذا شاء أدخله، وبلغني فعل هذا المولى، وقطعه لسان من هو بما قال في أولى، وكنت على نية قصده إما للزيارة والإلمام، وإما للإتيان والمقام، فأذكرني أشياء كنت نسيتها، من هذا الفن بل تناسيتها، ورأيت مقامي حيث رأيت أني خالي البال، من ملامة هؤلاء الأنذال، محروس الجانب، من كل عات عاتب، ومعيب عائب، مقيماً بين أشكال.
لا أزيدك شيئاً عما وقع عليه العيان، فأنت تدعوني إلى شوك، وأنا اليوم في سمك بلا شوك، كلا وحاشا لا ألبس هذا الحوك، إلا أن أكون ذلك الجاهل المائق، المستحق للمثل السابق، الفائز باللعنتين، الملسوع من جحر مرتين، فلعن الله أبا الحسين، إن عاد إلى لبس خفي حنين، بيد أن يجري القدر بإذهاب الجفا، وتقذيذ ما في العين من قذا، فهنالك ترى الثقيل من الرجال خفيفاً، والكثير من العوائق طفيفاً، وتغص دار الهجرة بما تقدم وتلا، ويغسل ما مر من العيش بما طاب وحلا، وأما على هذه الحال فلا.
وبعد هذا، أستدعى لماذا، أنا في العر أسلح، وللكتابة لا أصلح، وبالدعابة لا أعذب، ولا أملح. وهبني كنت في زمن الشبيبة، لا أحرم أجر الغيبة، وأنفق على الحبيب والحبيبة، وأقنع بالطيبة، أنا اليوم شيخ خرف، وعود قرف، وعود أنف، وعبد كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير، ليس إلا الالتحاف بالجدار، والرضا بالإقتار، والتشبه بالأخيار، والوطء لأقدام الأبرار. أليس الزرع قد ناهز الستين، وحسبك به قاطعاً للوتين؟ إلام ألعب والشيب يجد، وعلام أخلق والدهر يجد، أما أنظر المصارع في سواي، والمقصود به شواي.
وأعجب من هذه المواعظ، مخرقتي بها على واعظ. إنما أوجب هذه الفنون، وفتح عيون هذه الألفاظ العون، ما جرى من ذكر أشعب في كتابه الكريم، والسجدة بعد لربك العظيم.
وبعد فأنا يقطينة، إن قلت إنك شيرازي الطينة، أو بغدادي المدينة، بل عفريت سليمان، ألقادر على إحضار الإيوان، وعبدك غرس إبليس، لا عرش بلقيس، ودق شبراً ودمسيس، لا دق تنيس. فإن ضمنت لي السلامة من اغتيال عدو دون خدمة المولى، شمرت إلى خدمته وذيلت، وحططت رحالي بفنائه وقيلت. فما غيري بلبس قميص الدعة مني أحرى. والسلام.
الأديب أبو عبد الله محمد بن نصر بن صغير
القيسراني العكاوي
ولد بعكا، بلدة على ساحل بحر الروم، سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، ونشأ بقيسارية فنسب إليها، ثم انتقل عنها بعد استيلاء الأفرنج على بلاد الساحل.
صاحب التطبيق والتجنيس، وناظم الدر النفيس، ملك القبول من القلوب والرغبة من النفوس، وأحب اللحاق بابن حيوس. سار شعره، وسافر إلينا ذكره، وغلا في سوق الأدب دره، ونفقت في متجر الرغائب غرائبه، واتسعت في مضمار القريض مذاهبه، وجادت بالبلاغة السحبانية سحائبه.
ذكره مجد العرب العامري وأثنى عليه وعلى ابن منير، وقال إنه أخذ من كل علم طرفا، فنظم من الأبيات الأفراد طرفا. فمن ذلك بيت أنشدنيه، ألم ببيت المعري فيه، الذي شبه كلف البدر بأثر اللطم وهو:
ألست ترى في وجهه أثر اللطم
فأخذه القيسراني وشبهه بأثر الترب، في قوله وقد أحسن في النعة والمعنى، وهو:
وأَهوى الذي يَهوِي له البدرُ ساجداً ... أَلست ترى في وجهه أَثر التُّرْبِ
وأنشدني الفقيه علي الخيمي الواسطي بها، سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، قال: أنشدني القيسراني لنفسه بحلب بيتاً من قصيدة استدللت به على معرفته بالمنطق وكلام الأوائل، وقد أعجز وأعجب، وأبدع وأغرب، وهو:
إِذا كانت الأَحداق ضَرْباً من الظُّبى ... فلا شكّ أَنّ اللحْظَ ضربٌ من الضَّرْبِ
قوله: ضرب من الضرب، ضرب من الضرب، بل أحلى منه عند أهل الأدب، ونوع من محدثات الطرب، والقاضيات بالعجب، وما أحسن وقوع هذا التجنيس موقعه، ووضع المعنى فيه موضعه، حتى قلت في هذا البيت ما أصنعه.