إن الحديث الصحيح يعتبر نقطة الارتكاز التطبيقية الأولى لعلوم الحديث، لأنه يقع في الدرجة الأولى من غايات وضع هذا العلم بقواعده وفنونه الكثيرة المتشعبة التي تبلغ أصولها خمسة وثمانين نوعاً.

قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ: «عِلْمُ الْحَدِيثِ: عِلْمٌ بِقَوَانِينَ يُعْرَفُ بِهَا أَحْوَالُ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ ... وَغَايَتُهُ: مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِهِ» (?).

لذلك كان تصحيح الحديث تصحيحاً علمياً منهجياً من عمل الأئمة المتقنين، وجهابذة الحفاظ المتقدمين، خِلاَفًا لما يفعله كثير من العوام وأشباههم، يشهدون بالعلم والتقدم في هذا الفن لشخص لمجرد أن يقوم بنقد حديث أو تجريح رَاوٍ .. ‍!

[شروط الحديث الصحيح]:

ومن أجل تحقيق هذين الغرضين الكبيرين فسوف ندرس الحديث الصحيح دراسة مبتكرة، لا تقف عند الدراسة التقليدية لشرح كلمات تعريفه أو قانونه. بل نتجاوز لإبراز تطبيق نظريتنا في منهج النقد في علوم الحديث، وكيف أن شروط الحديث الصحيح قد اشتملت على دفع الخلل عن الحديث من كل جهاته، وفقاً لهذه النظرية، كما سنوضحه في تعريف الحديث الصحيح.

وهذا هو تعريف الحديث الصحيح نسوقه ثم نشرحه فيما يلي:

الحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «هُوَ الحَدِيثُ الذِي اتَّصَلَ سَنَدُهُ بِنَقْلِ العدْلِ الضَّابِطِ عَنْ العدْلِ الضَّابِطِ إِلَى مُنْتَهَاُه، وَلَمْ يَكُنْ شَاذًّا وَلاَ مُعَلاًّ» (?).

هذه العبارة أدق تعريف للحديث الصحيح، وللعلماء عبارات أخرى لا تخالف ما حوته هذه الجمل، في مضمونها، لكنها منتقدة شكلاً من حيث صياغتها.

وبالتأمل في هذا التعريف نجد أن للحديث الصحيح خمسة شروط لا بد أن تتوفر فيه كلها حتى يحكم له بالصحة، فإذا اختل واحد منها فليس الحديث بصحيح، وهذه الشروط الخمسة تتضمن أركان البحث النقدي التي سبق أن أشرنا إليها، ونبين لك ذلك فيما يلي:

[شُرُوطُ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ]: (*)

الشَّرْطُ الأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ رُوَاةِ الحَدِيثِ عَدْلاً:

أي متحلياً بصفة العدالة. والعدالة خصلة تلزم صاحبها سبيل الاستقامة والصدق. لأنها كما عرفها العلماء: «مَلَكَةٌ تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَىَ التَّقْوَى وَاجْتِنَابِ الأَدْنَاسِ وَمَا يُخِلُّ بِالمُرُوءَةِ عِنْدَ النَّاسِ».

وتتضمن العدالة خصالاً عدة كما هو ظاهر لمن تأمل في تعريفها، قد فصلها العلماء (?) وفرعوا أحكام العدالة في الرواية على هذه الخصال (?). ويجب أن يتنبه إلى أن العدالة لا تعني العصمة من الخطأ، لكن تستلزم تغلب عنصر الاستقامة بحيث لا يكاد يحيد عنه حتى يثوب ويرجع إليه، لذلك قالوا: من غلب نقصه على فضله وهب نقصه لفضله.

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي ضَابِطاً لِمَا يَرْوِيهِ:

وهذه الصفة تمنح الراوي القدرة على أن يروي الحديث كما سمعه. ويقسم المحدثون الضبط إلى قسمين:

القسم الأول: ضَبْطُ صَدْرٍ: ومعناه أن يحفظ الحديث عن ظهر قلب من حين سماعه إلى أن يؤديه، ويشترط فيه التيقظ لما يرويه، وألا يكون مُغَفَّلاً، وإن كان حَدَّثَ بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عَالِمًا بما يحيل المعاني.

القسم الثاني: ضَبْطُ كِتَابٍ: ومعناه أن يعتمد الراوي في الرواية على وثائق كَتَبَ فيها الأحاديث التي تلقاها من شيوخه، ويشترط فيه أن يكون ضابطًا لكتابه محافظًا عليه أن تمتد إليه يَدٌ بالتبديل أو التغيير.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015