محمدا. فهل تراهم عنوا بالأمر وبعثوا يستردون المسلمين لأنهم رأوا أن حماية النجاشي إيّاهم بعد سماعه أقوالهم قد تكون ذات أثر في إقبال أهل جزيرة العرب على دين محمد واتباعهم إياه؟ أم هم خافوا، إن بقي هؤلاء في الحبشة، أن تشتد شوكتهم، فإذا عادوا بعد ذلك لمعونة محمد عادوا أقوياء بالمال والرجال؟
كان الرسولان عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة. وقد دفعا إلى النجاشي وإلى بطارقته بالهدايا كي يرد المهاجرين من أهل مكة إليها. ثم قالا: أيها الملك إنه قد ضوى (?) إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت. وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردّهم إليهم؛ فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه» . وكان السفيران قد اتفقا مع بطارقة النجاشي بعد أن أتحفاهم بهدايا أهل مكة أن يعاونوهم على ردّ المسلمين إلى قريش دون أن يسمع النجاشي كلامهم، فأبى النجاشي أن يفعل حتى يسمع ما يقولون، وبعث في طلبهم. فلما جاؤا سألهم.
ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟
فكان الذي كلّمه جعفر بن أبي طالب، قال:
«أيها الملك، كنّا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القويّ منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا. وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام- وعدّد عليه أمور الإسلام- فصدقناه به واتبعناه على ما جاء به من الله. فعبدنا الله وحده لا نشرك به شيئا. وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا فعذّبونا وفتنونا عن ديننا ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحلّ ما كنا نستحل من الخبائث. فلما قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك؛ ورغبنا في جوارك ورجونا ألّا نظلم عندك» . فقال النجاشي: «وهل معك مما جاء به عن الله من شيء تقرؤه عليّ؟» .
قال جعفر: نعم! وتلا عليه سورة مريم من أوّلها إلى قوله تعالى: فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا. وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (?) .
فلما سمع البطارقة هذا القول مصدّقا لما في الإنجيل أخذوا وقالوا: هذه كلمات تصدر من النبع الذي صدرت منه كلمات سيدنا يسوع المسيح. وقال للنجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا والله لا أسلمهم إليكما. فلما كان الغد عاد ابن العاص إلى النجاشي فقال له: إن المسلمين