ضاقت قريش ذرعا بمحمد وأصحابه إذ رأتهم يزدادون كل يوم قوّة، ثم لا يثنيهم الأذى ولا يصرفهم العذاب عن إيمانهم والجهر به، وعن صلواتهم وأداء فرضها؛ فخيّل إليهم أن يتخلّصوا من محمد بما توهّموا من إرضاء مطامعه، ناسين عظمة الدعوة الإسلامية ونزاهة جوهرها الروحيّ السامي عن الخصومة السياسية.
فقد رغب عتبة بن ربيعة، وكان من سادات العرب، إلى قريش وهم في ناديهم أن يكلم محمدا وأن يعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فيعطونه أيّها شاء ويكف عنهم. وكلم عتبة محمدا قال: «يا ابن أخي، إنك منّا حيث قد علمت من المكان في النسب. وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم. فاسمع مني أعرض عليك أمورا لعلك تقبل بعضها ... إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا. وإن كنت تريد تشريفا سوّدناك علينا، فلا تقطع أمرا دونك. وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا. وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا (?) تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطبّ وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ» . فلما فرغ من قوله تلا محمد عليه سورة السجدة وعتبة منصت يستمع إلى أحسن القول ويرى أمامه رجلا لا مطمع له في مال ولا تشريف ولا في ملك ولا هو بالمريض، وإنما يدلي بالحق، ويدعو إلى الخير، ويدفع بالتي هي أحسن، مع الإعجاز في العبارة. فلما انتهى محمد انصرف عتبة إلى قريش مأخوذا بجمال ما رأى وسمع، مأخوذا بعظمة هذا الرجل وسحر بيانه. ولم يرق قريشا أمر عتبة ولا راقها رأيه أن تترك للعرب محمدا، فإن تغلبت عليه استراحت قريش، وإن تبعته فلها فخاره. فعادت تناوئ محمدا وتناوئ أصحابه وتصيبهم من البلاء مما كان هو في منجاة منه بمكانته من قومه ومنعته بأبي طالب وبني هاشم وبني المطلب.
وزاد ما ينزل بالمسلمين من الأذى، وبلغ منهم القتل والتعذيب والتمثيل، هنالك أشار عليهم محمد أن يتفرّقوا في الأرض. فلما سألوه أين نذهب؟ نصح إليهم أن يذهبوا إلى بلاد الحبشة المسيحيّة «فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» . فخرج فريق من المسلمين عند ذلك إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم. وخرجوا في هجرتين؛ كانوا في الأولى أحد عشر رجلا وأربع نساء تسللوا من مكة لواذا، ثم أقاموا في خير جوار من النجاشي، حتى ترامى إليهم أن المسلمين بمكة أصبحوا بمأمن من أذى قريش فعادوا، كما سنقصّه من بعد. فلما لقوا عنت قريش وأذاهم أبلغ مما كان عادوا إلى الحبشة في ثمانين رجلا غير نسائهم وأطفالهم، وأقاموا بها إلى ما بعد هجرة النبي إلى يثرب. وهذه الهجرة إلى الحبشة كانت أوّل هجرة في الإسلام.
من حق من يؤرخ لمحمد أن يسأل: أكان كل القصد من هذه الهجرة التي قام بها المسلمون بأمره ورأيه، الفرار من كفّار مكة وما يلحقون بهم من الأذى؟ أم أنها كان لها كذلك غرض سياسيّ إسلاميّ رمى محمد من ورائه إلى غاية عليا؟ من حق مؤرخ محمد أن يسأل عن هذا بعد ما ثبت من تاريخ هذا النبيّ العربيّ في أطوار حياته جميعا أنه كان سياسيّا بعيد الغور، كما كان صاحب رسالة وأدب نفس لا يدانيه فيهما في السمّو والجلال والعظمة مدان. ويدعونا إلى هذه المسألة ما تجري به الرواية من أن أهل مكة لم يستريحوا إلى خروج من خرج من المسلمين إلى الحبشة، بل بعثوا رجلين إلى النجاشي ومعهما الهدايا النفيسة ليقنعوه بأن يردّ المسلمين من مواطنيهم إليهم. والحبشة ونجاشيها كانوا نصارى، فليس تخشى قريش عليهم من الناحية الدينية أن يتّبعوا