يَعْلَمْ) (?) فقرأها وانصرف الملك عنه وقد نقشت في قلبه (?) .
ولكنه ما لبث أن استيقظ فزعا يسأل نفسه: أيّ شيء رأى؟ أتراه أصابه ما كان يخشى من جنّة؟ وتلفّت يمنة ويسرة فلم ير شيئا. ومكث برهة أصابته فيها رعدة الخوف وتولاه أشدّ الوجل، وخاف ما قد يكون بالغار، ففر منه وكله حيرة لا يستطيع تفسير ما رأى. وانطلق هائما في شعاب الجبل يسائل نفسه عمّن دفعه ليقرأ. لقد كان إلى يومئذ يرى وهو في تحنثه الرؤيا الصادقة تنبلج من خلال تأمله فتملأ صدره فتضيء أمامه وتدله على الحق أين هو، وتنير له حجب الظلمات التي زجّت قريشا في وثنيتهم إلى عبادة أصنامهم. وهذا النور الذي أضاء أمامه وهذا الحق الذي هداه سبيله هو الواحد الأحد. فمن هذا المذكّر به، وبأنه الذي خلق الإنسان، وبأنه الأكرم الذي علم الإنسان بالقلم ما لم يعلم؟ وتوسّط الجبل وهو في هذه الحال من فزع وخشية ومساءلة، فسمع صوتا يناديه، فأخذه الرّوع ورفع رأسه إلى السماء، فإذا الملك في صورة رجل هو المنادي.
وزاد به الفزع ووقفه الرعب مكانه، وجعل يصرف وجهه عما يرى، فإذا هو يراه في آفاق السماء جميعا ويتقدم ويتأخّر فلا تنصرف صورة الملك الجميل من أمامه. وأقام على ذلك زمنا كانت خديجة قد بعثت أثناءه من يلتمسه في الغار فلا يجده. فلما انصرفت صورة الملك رجع محمد ممتلئا بما أوحي إليه، وفؤاده يجف وقلبه يضطرب خوفا وهلعا. ودخل على خديجة وهو يقول زملوني، فزمّلته وهو يرتعد كأن به الحمّى. فلما ذهب عنه الرّوع نظر إلى زوجه نظرة المستنجد، وقال: يا خديجة! مالي!؟ وحدّثها بالذي رأى، وأفضى إليها بمخاوفه أن تخدعه بصيرته أو أن يكون كاهنا. وكانت خديجة، كما كانت أيام تحنثه في الغار ومخاوفه أن تكون به جنّة، ملك الرحمة وملاذ السلام لهذا القلب الكبير الخائف الوجل. لم تبد له أي خوف أو ريبة، بل رنت إليه بنظرة الإكبار وقالت: أبشر يابن عمّ وأثبت. فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمة. والله لا يخزيك الله أبدا. إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» .
واطمأن روع محمد وألقى على خديجة نظرة شكر ومودة ثم أحسّ جسمه متعبا في حاجة إلى النوم فنام.
نام ليستيقظ من بعد لحياة روحية قوية غاية القوة؛ حياة تأخذ بالأبصار والألباب، ولكنها حياة تضحية خالصة لوجه الله والحق والإنسانية. تلك رسالة ربه يبلغها ويدعو الناس إليها بالتي هي أحسن، حتى يتمّ الله نوره ولو كره الكافرون.