يعدّه الله ليلقى عليه ما قدّر في الغيب من رسالته. ومع عظيم توجهه إلى هذه الناحية الروحية وشديد تعلقه بها، لم يكن يريد لنفسه أن يكون من طراز الكهّان، ولا أراد أن ينصب نفسه حكيما على نحو ما كان ورقة بن نوفل وأمثاله؛ إنما كان يريد الحق لنفسه، فكان لذلك كثير التفكير، طويل التأمل، قليل الإفضاء إلى غيره بما يجيش بنفسه من آثار تفكيره وتأمله.
وقد كان من عادة العرب إذ ذاك أن ينقطع مفكروهم للعبادة زمنا في كل عام يقضونه بعيدا عن الناس في خلوة، يتقربون إلى آلهتهم بالزهد والدعاء، ويتوجهون إليها بقلوبهم يلتمسون عندها الخير والحكمة وكانوا يسمون هذا الانقطاع للعبادة التحنف والتحنث. وقد وجد محمد فيه خير ما يمكّنه من الإمعان فيما شغلت به نفسه من تفكير وتأمل، كما وجد فيه طمأنينة نفسه وشفاء شغفه بالوحدة يتلمس أثناءها الوسيلة إلى ما لم يبرح شوقه يشتد إليه من نشدان المعرفة واستلهام ما في الكون من أسبابها. وكان بأعلى جبل حراء- على فرسخين من شمال مكة- غار هو خير ما يصلح للانقطاع والتحنث، فكان يذهب إليه طول شهر رمضان من كل سنة يقيم به مكتفيا بالقليل من الزاد يحمل إليه ممعنا في التأمل والعبادة، بعيدا عن ضجّة الناس وضوضاء الحياة، ملتمسا الحق، والحق وحده. ولقد كان يشتد به التأمل ابتغاء الحقيقة حتى لقد كان ينسى نفسه وينسى طعامه وينسى كل ما في الحياة؛ لأن هذا الذي يرى في حياة الناس مما حوله ليس حقّا. وهناك كان يقلّب في صحف ذهنه كل ما وعى فيزداد عما يزاول الناس من ألوان الظن رغبة وأزورارا.
وهو لم يكن يطمع في أن يجد في قصص الأحبار وفي كتب الرهبان الحق الذي ينشد، بل في هذا الكون المحيط به: في السماء ونجومها وقمرها وشمسها، وفي الصحراء ساعات لهيبها المحرق تحت ضوء الشمس الباهرة اللألاء، وساعات صفوها البديع إذ تكسوها أشعة القمر أو أضواء النجوم بلباسها الرّطب الندي، وفي البحر وموجه، وفي كل ما وراء ذلك مما يتصل بالوجود وتشمله وحدة الوجود. في هذا الكون كان يلتمس الحقيقة العليا، وكان ابتغاء إدراكها يسمو بنفسه ساعات خلوته ليتّصل بهذا الكون وليخترق الحجب إلى مكنون سرّه. ولم يكن في حاجة إلى كثير من التأمل ليرى أن ما يباشر قومه من شؤون الحياة وما يتقرّبون به إلى آلهتهم ليس حقّا. فما هذه الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع، ولا تخلق ولا ترزق، ولا تدفع عن أحد غائلة شر يصيبه! وهبل واللّات والعزّى، وكل هذه الأنصاب والأصنام القائمة في جوف الكعبة أو حولها، لم تخلق يوما ذبابة ولا جادت مكة بخير! ولكن! أين الحق إذا؟ أين الحق في هذا الكون الفسيح بأرضه وسماواته ونجومه؟ أهو في هذه الكواكب المضيئة التي تبعث إلى الناس النور والدّفء، ومن عندها ينحدر ماء المطر؛ فتكون للناس، ولأهل الأرض كافة من خلائق، حياة بالماء والنور والدفء؟ كلا! فما هذه الكواكب إلا أفلاك كالأرض سواء. أهو فيما وراء هذه الأفلاك من أثير لا حد ولا نهاية له؟ ولكن ما الأثير؟ وهذه الحياة التي نحيا اليوم فتنقضي غدا، ما أصلها وما مصدرها؟! أمصادفة تلك التي أوجدت الأرض وأوجدتنا عليها؟ لكن للأرض وللحياة سنّنا ثابتة لا تبديل لها ولا يمكن أن تكون المصادفة أساسها. وما يأتي الناس من خير أو شر، أفيأتونه طواعية واختيارا، أم هو بعض سليقتهم فلا سلطان لاختيارهم عليه؟ في هذه الأمور النفسية والروحية كان محمد يفكر أثناء انقطاعه وتعبده بغار حراء، وكان يريد أن يرى الحق فيها وفي الحياة جميعا. وكان تفكيره يملأ نفسه وفؤاده وضميره وكل ما في وجوده، ويشغله لذلك عن هذه الحياة وصبحها ومسائها. فإذا انقضى شهر