لا أعلمه» . وأما عثمان بن الحويرث، وكان من ذوي قرابة خديجة، فذهب إلى بيزنطية وتنصر وحسنت مكانته عند قيصر ملك الروم ويقال: إنه أراد أن يخضع مكة لحماية الرّوم وأن يكون عامل قيصر عليها، فطرده المكيون فاحتمى بالغساسنة في الشام، وأراد أن يقطع الطريق على تجارة مكة، فوصلت إلى الغساسنة هدايا المكيين، فمات ابن الحويرث عندهم مسموما.

أبناء محمد

تعاقبت السنون ومحمد يشارك أهل مكة في حياتهم العامة، ويجد في خديجة خير النساء حقّا: الودود والولود التي وهبت نفسها له، والتي أنجبت له من الأبناء القاسم وعبد الله الملقب بالطاهر وبالطيب، ومن البنات زينب ورقيّة وأم كلثوم وفاطمة. أمّا القاسم وعبد الله فلم يعرف عنهما إلا أنهما ماتا طفلين في الجاهلية لم يتركا على الحياة أثرا يبقى أو يذكر؛ لكنهما من غير شك قد ترك موتهما في نفس أبويهما ما يتركه موت الابن من أثر عميق، وترك موتهما من غير شك في نفس خديجة ما جرح أمومتها جرحين داميين. وهي لا ريب قد اتجهت عند موت كل واحد منهما في الجاهلية إلى آلهتها الأصنام تسألها: ما بالها لم تشملها برحمتها وبرها، وما بالها لم ترحم قلبها من أن يهوى به الثّكل ليتحطم على قرارة الحزن مرة فمرّة! وقد شعر معها زوجها لا ريب بالألم لوفاة ابنيه، كما حزّ في قلبه هذا الألم الحيّ ممثلة صورته في زوجه يراه كلما عاد إلى بيته وجلس إليها. وليس يتعذّر علينا أن نقدر عمق هذا الحزن السحيق في عصر كانت البنات يوأدن فيه، وكان الحرص على العقب الذكر يوازي الحرص على الحياة بل يزيد عليه. وبحسبك مظهرا لهذا الألم أن لم يطق محمد على الحرمان صبرا، حتى إذا جيء بزيد بن حارثة يشترى، طلب إلى خديجة أن تبتاعه ففعلت، ثم أعتقه وتبناه، فكان يدعى زيد بن محمد، واستبقاه ليكون من بعد من خيرة أتباعه وصحبه. ولقد حزن محمد من بعد حين مات ابنه إبراهيم أشد الحزن بعد أن حرّم الإسلام وأد البنات، وبعد أن جعل الجنة تحت أقدام الأمهات. فلا ريب إذا أن قد كان لما أصاب محمدا في بنيه ما هو جدير بأن يترك في حياته وتفكيره أثره. ولا ريب في أنه استوقف تفكيره ولفت نظره في كل واحدة من هذه الفواجع ما كانت خديجة تتقرّب به إلى أصنام الكعبة، وما كانت تنحر لهبل وللّات والعزّى ولمناة الثالثة الآخرى، تريد أن تتفادى ممّا ألمّ بها من ألم الثكل، فلا تفيد القرابين ولا تجدي النحور.

وأما البنات فقد عني محمد بتزويجهن من أكفاء لهن: زوّج زينب كبراهن من أبي العاص بن الرّبيع بن عبد شمس، وكانت أمّه أختا لخديجة، وكان فتى مقدّرا من قومه لاستقامته ونجاح تجارته. وكان هذا الزواج موفقا على الرغم مما كان بعد الإسلام، حين أرادت زينب الهجرة من مكة إلى المدينة، من فرقة بينهما سنرى من بعد تفصيلها. وزوّج رقيّة وأم كلثوم من عتبة وعتيبة ابني عمه أبي لهب. ولم تبق هاتان الزوجتان مع زوجيهما بعد الإسلام؛ إذ أمر أبو لهب إبنيه بتسريحهما، فتزوجهما عثمان واحدة بعد الآخرى. وكانت فاطمة ما تزال طفلة فلم تزوج من عليّ إلا بعد الإسلام.

حياة طمأنينة ودعة إذا كانت حياة محمد في هذه السنين من عمره. ولولا احتسابه بنيه لكانت حياة نعمة بمودّة خديجة ووفائها، وبهذه الأبوة السعيدة الراضية. طبيعيّ لذلك أن يترك نفسه لسجيّتها، سجية التفكير والتأمل، وأن يستمع إلى قومه فيما كان حوارهم يقع عليه من أمور أصنامهم، وما كان النصارى واليهود يقولونه لهم، وأن يفكر ويتدبّر وأن يكون أشدّ من كل قومه تدبرا وتفكيرا. فهذا الروح القويّ الملهم، هذا الروح الذي أعدّته الأقدار ليبلّغ الناس من بعد رسالات ربه ويوجّه حياة العالم الروحية الاتجاه الحقّ، لا يمكن أن يظل مطمئنّا إلى ما غرق الناس فيه إلى الأذقان من ضلال، ولا بد أن يلتمس في الكون أسباب الهدى، حتى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015