لكن عمه أبا طالب كان، كما قدّمنا، حليف فقر كثير عيال. لذلك رأى أن يجد لابن أخيه سببا للرزق أوسع مما يجيئه من أصحاب الغنم التي يرعى. فبلغه يوما أن خديجة بنت خويلد تستأجر رجالا من قريش في تجارتها، وكانت خديجة امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها يضاربون لها به بشيء تجعله لهم. ولقد زاد في ثروتها أنها، وكانت من بني أسد، قد تزوّجت مرّتين في بني مخزوم مما جعلها من أوفر أهل مكة غنى. وكانت تقوم على مالها بمعونة أبيها خويلد وبعض ذوي ثقتها. وقد ردّت خطبة الذين خطبوها من كبار قريش؛ لأنها كانت تعتقد أنهم ينظرون إلى مالها. واعتزمت أن تقف جهدها على تنمية ثروتها. وإذ علم أبو طالب أنها تجهز لخروج تجارتها إلى الشام مع القافلة نادى ابن أخيه، وكان يومئذ في الخامسة والعشرين من سنه، وقال له: يا ابن أخي، أنا رجل لا مال لي، وقد اشتدّ الزمان علينا. وقد بلغني أن خديجة استأجرت فلانا ببكرين، ولسنا نرضى لك بمثل ما أعطته فهل لك أن أكلمها؟ قال محمد: ما أحببت! فخرج أبو طالب إليها فقال لها: هل لك يا خديجة أن تستأجري محمدا؟ فقد بلغنا أنك استأجرت فلانا ببكرين، ولسنا نرضى لمحمد دون أربعة بكار. وكان جواب خديجة: لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف وقد سألته لحبيب قريب! وعاد العمّ إلى ابن أخيه يذكر له الأمر ويقول له: هذا رزق ساقه الله إليك.
خرج محمد مع ميسرة غلام خديجة بعد أن أوصاه أعمامه به. وانطلقت القافلة في طريق الصحراء إلى الشام مارّة بوادي القرى ومدين وديار ثمود بتلك البقاع التي مرّ بها محمد مع عمّه أبي طالب وهو في الثانية عشرة من عمره. وأحيت هذه الرحلة في نفسه ذكريات الرحلة الأولى، كما زادته تأملا وتفكيرا في كل ما رأى وسمع من قبل عن العبادات والعقائد بالشام أو بالأسواق المحيطة بمكة. فلما بلغ بصرى اتّصل بنصرانية الشام وتحدّث إلى رهبانها وأحبارها وتحدّث إليه راهب نسطوريّ وسمع منه. ولعلّه أو لعلّ غيره من الرهبان قد جادل محمدا في دين عيسى، هذا الدين الذي كان قد انقسم يومئذ شيعا وأحزابا، كما بسطنا من قبل. واستطاع محمد بأمانته ومقدرته أن يتّجر بأموال خديجة تجارة أوفر ربحا مما فعل غيره من قبل، واستطاع بحلو شمائله وجمال عواطفه أن يكسب محبّة ميسرة وإجلاله. فلما آن لهم أن يعودوا ابتاع لخديجة من تجارة الشام لك ما رغبت إليه أن يأتيها به.
فلمّا بلغت القافلة مرّ الظّهران في طريق عودتها، قال ميسرة: يا محمد، أسرع إلى خديجة فأخبرها بما صنع الله لها على وجهك فإنها تعرف ذلك لك. وانطلق محمد حتى دخل مكة في ساعة الظّهيرة، وكانت خديجة في علّيّة لها، فرأته وهو على بعيره؛ ونزلت حين دخل دارها واستقبلته. واستمعت إليه يقص بعبارته البليغة الساحرة خبر رحلته وربح تجارته وما جاء به من صناعة الشام، وهي تنصت مغتبطة مأخوذة. وأقبل ميسرة من بعد فروى لها عن محمد ورقة شمائله وجمال نفسه ما زادها علما به فوق ما كانت تعرف من فضله على شباب مكة. ولم يك إلا ردّ الطرف حتى انقلبت غبطتها حبّا جعلها وهي في الأربعين من سنّها، وهي التي ردّت من قبل أعظم قريش شرفا ونسبا، تود أن تتزوج من هذا الشابّ الذي نفذت نظراته ونفذت كلماته إلى أعماق قلبها. وتحدّثت في ذلك إلى أختها على قول، وإلى صديقتها نفيسة بنت منية على قول آخر. وذهبت نفيسة دسيسا إلى محمد فقالت له: ما يمنعك أن تتزوّج؟ قال: ما بيدي ما أتزوّج به. قالت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ أجابت نفيسة بكلمة واحدة:
خديجة. قال محمد: كيف لي بذلك؟! وكان قد انس هو أيضا إلى خديجة وإن لم تحدّثه نفسه بزواج منها لما كان يعلم من ردّها أشراف قريش وأغنياءها. فلما قالت له نفيسة جوابا عن سؤاله: عليّ ذلك، سارع إلى إعلان