وقدم قصيّ مكة وأقام بها، وعرف عنه فيها من الجدّ وحسن الرأي ما جعله موضع احترام أهلها وأهله فيها. وكانت سدانة البيت في خزاعة لحليل بن حبشيّة، وكان رجلا ثاقب النظر حسن التقدير؛ فما لبث حين خطب قصيّ إليه ابنته حبّى أن رحّب به وزوّجه منها. واستمر دأب قصيّ في السعي والتجارة، فكثرت أمواله كما كثر أولاده وعظم بين قومه شرفه. ومات حليل بعد أن أوصى بمفتاح البيت الحرام لحبّى زوج قصيّ، واعتذرت حبّى عن ذلك وجعلت المفتاح لأبي غبشان الخزاعي. وكان أبو غبشان سكّيرا، فأعوزه الشراب يوما فباع مفتاح البيت قصيّا بزقّ خمر. وقدرت خزاعة ما يصيب مكانتها بمكة إذا بقيت سدانة الكعبة لقصيّ بعد أن كثر ماله وبعد أن بدأت قريش تجتمع حوله، فأنكروا أن يكون لغيرهم منصب من المناصب المتصلة بالبيت الحرام. وإستنفر قصيّ قريشا، ورأت بعض القبائل أنه أحكم المقيمين بمكة وأعظمهم قدرا فانضموا له وأجلوا خزاعة عن مكة، واجتمعت مناصب البيت كلها لقصي، وأقرّ القوم له بالملك عليهم.
وذهب البعض، كما قدمنا، إلى أن مكة لم يكن بها بناء غير الكعبة إلى أن تولّى قصيّ أمرها. ويعللون ذلك بأن خزاعة وجرهما قبلها لم يريدوا أن يكون إلى جوار بيت الله بيت غيره، وأنهم لم يكونوا يقيمون ليلهم بالحرم بل يذهبون إلى الحلّ. ويضيف هذا البعض أن قصيّا لما تمّ له أمر مكة جمع قريشا وأمرهم أن يبنوا بها، وابتدأ هو فبنى دار الندوة يجتمع فيها كبراء أهل مكة تحت إمرته ليتشاوروا في أمور بلدهم. فقد كان من عادتهم ألّا يتم أمر إلا باتفاقهم؛ فلم تكن تنكح امرأة ولا يتزوّج رجل إلا في هذه الدار. وبنت قريش بأمر قصيّ حول الكعبة دورها، وتركوا مكانا كافيا للطواف بالبيت، وتركوا بين كل بيتين طريقا ينفذ منه إلى المطاف.
وكان عبد الدار أكبر أبناء قصيّ، ولكن أخاه عبد مناف كان قد تقدّم عليه أمام الناس وقد شرف فيهم.
فلما كبر قصيّ وضعف بدنه ولم يبق قادرا على تولي أمور مكة جعل الحجابة لعبد الدار وسلم إليه مفتاح البيت، كما أعطاه السقاية واللواء والرّفادة. وكانت الرّفادة قسطا تخرجه قريش كل عام من أموالها فتدفعه إلى قصيّ يصنع منه في موسم الحج طعاما ينال منه من الحاجّ من لم يكن ذا سعة ولا زاد. وكان قصيّ أوّل من فرض الرّفادة على قريش حين جمعهم واعتزّ بهم وأخرج وإياهم خزاعة من مكة. فرضها عليهم وقال لهم: «يا معشر قريش! إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل حرمه، وإن الحاجّ ضيف الله وزوّار بيته، وهم أحق الأضياف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم» .
وتولّى عبد الدار مناصب الكعبة كأمر أبيه وتولّاها أبناؤه من بعده. لكن أبناء عبد مناف. كانوا أشرف في قومهم وأعظم مكانة: لذلك أجمع هاشم وعبد شمس والمطّلب ونوفل بنو عبد مناف على أن يأخذوا ما بأيدي أبناء عمومتهم، وتفرّق رأي قريش: تنصر طائفة هؤلاء وأخرى أولئك. وعقد بنو عبد مناف حلف المطيّبين؛ لأنهم غمّسوا أيديهم في طيب جاؤا به إلى الكعبة وأقسموا لا ينقضون حلفهم. وعقد بنو عبد الدار حلف الأحلاف. وكان هؤلاء وأولئك يوشكون أن يقتتلوا في حرب تذيب قريشا لولا أن تداعى الناس إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تبقى الحجابة واللواء والنّدوة لبني عبد الدار. ورضي الفريقان بذلك، وظل الأمر عليه إلى أن جاء الإسلام.