أفكانت تحيط بالكعبة منذ إنشائها مناصب كالتي تولّاها قصي بن كلاب في منتصف القرن الخامس الميلاديّ حين اجتمع له ملك مكة؟ فقد اجتمعت لقصي الحجابة والسقاية والرّفادة والنّدوة واللواء والقيادة.
والحجابة سدانة البيت؛ أي تولى مفاتيحه. والسقاية إسقاء الحجيج الماء العذب الذي كان عزيزا بمكة، وإسقاؤهم كذلك نبيذ التمر. والرّفادة إطعام الحاجّ جميعا. والندوة رياسة الاجتماع كل أيام العام، واللواء راية يلوونها على رمح وينصبونها علامة للعسكر إذا توجّهوا إلى عدوّ. والقيادة إمارة الجيش إذا خرجوا إلى حرب، وكانت هذه المناصب كلها معتبرة في مكة وكأنها تحيط بالكعبة متّجه أنظار العرب جميعا في عباداتهم.
وأحسبها لم تنبت كلها دفعة واحدة منذ أقيم البيت، بل نشأت الواحدة تلو الآخرى مستقلا بعضها عن الكعبة ومكانتها الدينية، متصلا بعضها بالكعبة من طبعه.
لم تكن مكة حين بناء الكعبة، على خير ما يمكن أن يصوّره خيالنا، لتزيد على قبائل من العماليق ومن جرهم، فلما استقر بها إسماعيل ورفع قواعد البيت مع أبيه إبراهيم اقتضى تطوّر مكة، لتصير حضرا أو ما يشبه الحضر، زمانا طويلا ونقول: ما يشبه الحضر أن ظلت مكة وما تزال وفي طباع أهلها بقايا متخلفة من معاني البداوة الأولى. ولا يأبى بعض المؤرخين أن يذكر أنها ظلّت على بداوتها إلى أن اجتمع أمرها لقصيّ في منتصف القرن الخامس للميلاد. وعسير أن نتصوّر بقاء بلد له ما لمكة وبيتها العتيق من التقديس في حالة البادية، مع ما يثبت التاريخ من أن أمر البيت بقي بعد إسماعيل في يد جرهم أخوال بنيه أجيالا متعاقبة أقاموها حوله، ومع أن مكة كانت ملتقى طرق القوافل إلى اليمن وإلى الحيرة وإلى الشام وإلى نجد، كما كانت تتصل من البحر الأحمر القريب منها بتجارة العالم. عسير أن نتصوّر بقاء بلد له هذه المكانة من غير أن يدنيه اتصاله بالعالم من مراتب الحضارة. فمن الحق لذلك أن نقدر أن مكة، وقد دعاها إبراهيم بلدا ودعا الله له أن يكون آمنا مطمئنا، قد عرفت حياة الاستقرار أجيالا طويلة قبل قصيّ.
وظل أمر مكة لجرهم بعد أن غلبوا العماليق عليها إلى عهد مضاض بن عمرو بن الحارث. وقد راجت تجارة مكة خلال هذه الأجيال رواجا أمّر مترفيها وجعلوا ينسون أنهم بواد غير ذي زرع وأنهم في حاجة لذلك إلى الدأب المتصل واليقظة الدائمة. وبلغ من نسيانهم أن نضب ماء زمزم وأن فكر عرب خزاعة في الوثوب إلى مناصب الأمر في البلد الحرام.
ولم يجد تحذير مضاض قومه عاقبة ما انغمسوا فيه من ترف، وأيقن أن الأمر زائل عنه وعنهم؛ فعمد إلى زمزم فأعمق حفرها، وإلى غزالتين من ذهب كانتا بالكعبة مع طائفة من الأموال التي كانت تهدي إلى البيت الحرام فدفعها بقاع البئر وأهال الرمال عليها، آملا أن يعود له- الأمر يوما فيفيد من الكشف عنها، وخرج ومعه بنو إسماعيل من مكة. ووليت خزاعة أمرها. وظلّت تتوارثه حتى آل إلى قصيّ بن كلاب الجدّ الخامس للنبيّ.
وكانت أمّ قصيّ فاطمة بنت سعد بن سهل قد تزوّجت من كلاب فولدت له زهرة وقصيّا. ثم هلك كلاب وقصيّ طفل في المهد. وتزوّجت فاطمة من ربيعة بن حرام؛ فرحل بها إلى الشام وهناك ولدت له درّاجا. وكبر قصيّ وهو لا يعرف لنفسه أبا غير ربيعة. ووقع بينه وبين آل ربيعة شرّ فعيّروه أنه في جوارهم وأنه ليس منهم.
وشكا قصيّ إلى أمه ما عير إياه، فقالت: يا بنيّ إنك والله لأكرم منهم أبا، أنت ابن كلاب بن مرّة، وقومك بمكة عند البيت الحرام.