كلها كما تسرع كل حقيقة صادقة إلى الإنتشار. فلمّا جاء المتأخرون ممن دخلوا في الإسلام وغزوا للفتح وأخذوا بالسيف أخذوا من بعد ذلك بالسيف. لكن الإسلام لم يأخذ بالسيف ولن يؤخذ بالسيف. هو لم يأخذ بالسيف شيئا قط، بل استولى على العقول والقلوب والضمائر بقوّة سلطانه. لذلك تعاقبت على أممه دول حكمتها وقهرتها وتحكمت فيها؛ فلم يغير ذلك من إسلامها ولا غير من إيمانها. وما تزال أوربا الينوم تحكم الشعوب الإسلامية وتتحكم فيها، ولن يغير ذلك من إيمانها بالله شيئا. فأمّا الذين يأخذون المسلمين اليوم بالسيف فمصيرهم، كي تصدّق عليهم كلمة الإنجيل، أن يؤخذوا بالسيف جزاء وفاقا.
ردّ النبي الأمراء إلى إماراتهم والملوك إلى ممالكهم. ولقد كانت بلاد العرب في آخر عهده عصبة أمم عربية إسلامية، ولم تكن فيها مستعمرة خاضعة لمكة أو ليثرب. كان العرب يومئذ جميعا سواسية أمام الله في إيمانهم المتين به وكانوا جميعا يدا واحدة على من اعتدى عليهم أو حاول فتنتهم عن دينهم. وظلت الأمم الإسلامية من بعد ذلك وإلى عهد الانحلال عصبة أمم إسلامية، مقرّ الخليفة فيها هو مقرّ العصبة. لم تستأثر دار الخلافة بالسلطة الروحية ولا استأثرت بالعلم ونوره؛ بل كانت كل الأمم الإسلامية لا تعرف سلطة روحية غير أمر الله. وكانت العواصم الإسلامية كلها عواصم للعلم والفن والصناعة؛ وظلّ ذلك شأنها حتى تغير المسلمون للإسلام، وأنكروا مبادئه الكريمة، ونسوا أخوّة المؤمنين، ونسوا أن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه. هنالك غلبت عليهم الأثرة. وهنالك لعبت السياسة المدمرة أدوارها فصار السيف حكما. ومن يأخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ. لذلك نهضت أوربا المسيحية منذ القرن الخامس عشر الميلادي إلى حياة روحية جديدة، ربما كانت تفيد العالم حقّا لولا أن أسرع إليها الفساد الذي لم يكن منه بدّ بسبب تفرّق المسيحية شيعا. على أنها في فترة النهوض هذه واجهت الأمم الإسلامية التي نسيت الإسلام فأخذتها بالسيف وظلّت ممعنة في أخذها به، ثم جعلته بينها وبين الأمم الإسلامية حكما. ومتى حكم السيف فقل على العقل وعلى العلم وعلى الخير وعلى المحبة وعلى الإيمان بل على الإنسانية نفسها العفاء.
وحكم السيف العالم اليوم هو سبب هذه الأزمة الروحية والنفسية التي يجتازها العالم ويئن من هولها. وقد آمنت الدول التي تحكم العالم بالسيف أثناء الحرب الكبرى الماضية، أي منذ عشرين سنة، بهذه الحقيقة فأرادت أن تقرّ حكم السلام في العالم، وأقامت عصبة الأمم لتحقيق هذه الغاية. وعهدة هذه العصبة تتلخص كلها في قوله تعالى: (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (?) .
لكن روح السلام لم تسد العالم بعد؛ لأن أساس الحضارة الغالبة فيه هو الاستعمار؛ الاستعمار القائم على أساس القوميات وتنافسها ومحاولة كل دولة قويّة استغلال الدول الضعيفة. ومن حق كل أمة مغلوبة على أمرها، بل أوّل واجب عليها أن تعمل لتحطيم نير الغالب. ولذلك كان الاستعمار بذرة الثورة والحرب ونواتهما. فما بقي الاستعمار فلن يكون للسلام الغلب ولن تضع الحرب أوزارها إلا ظاهرا، وستظل الأمم ينظر بعضها إلى بعض نظرة التوجّس والحذر، بل نظرة التربّص للاغتيال. وأنّى يكون سلام وهذه النفسية