الأطراف، واتخذوا من عقيدة القدر مثبّطأ للعزائم، وغلا للأيدي عن العمل. والعامل الأقوى في حمل النفوس على قبول هذه الخرافات إنما هو السذاجة وضعف البصيرة في الدين وموافقة الهوى. أمور إذا اجتمعت أهلكت. فاستتر الحق تحت ظلام الباطل، ورسخ في نفوس الناس من العقائد ما يضارب أصول دينهم ويباينها على خط مستقيم، كما يقال.
«هذه السياسة، سياسة الظلمة وأهل الأثرة، هي التي روّجت ما أدخل على الدين مما لا يعرفه، وسلبت من المسلم أملا كان يخترق به أطباق السموات، وأخلدت به إلى يأس يجاور به العجماوات ... فجلّ ما تراه الآن مما تسميه إسلاما فهو ليس بإسلام، وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج ومن الأقوال قليلا منها حرّفت عن معانيها. ووصل الناس بما عرض على دينهم من البدع والخرافات إلى الجمود الذي ذكرته وعدوّه دينا. نعوذ بالله منهم ومما يفترون على الله ودينه. فكل ما يعاب الآن على المسلمين ليس من الإسلام وإنما هو شيء آخر سمّوه إسلاما» (?) .
هذه الحال التي صوّرها الشيخ محمد عبده أدّت إلى ذيوع مبادئ متناقضة نشرها أصحابها على أنها من الإسلام وأنها بعض ما أمر به الله ورسوله. من هذه المبادئ مذهب الجبرية الذي صوّره المتأخرون تصويرا يخالف ما جاء في القرآن. قد رأيت تصوير القرآن لهذا المذهب فيما سبق. أمّا أولئك المتأخرون فدعوا إلى القعود والاستسلام، وقالوا إن العيش ليس بالسعي ولا التدبير، وإنما هو بالرزق وبالتقدير، دون أن يكون لعمل الإنسان فيه فضل. وهذه جبرية مخطئة أتاحت لبعض أهل الغرب أن يتّهم الإسلام بها باطلا من غير حق. ومن هذه المبادئ مذهب ازدراء المادة وعدم الأخذ منها بأيّ نصيب، وهذا مذهب الرواقيين اليونانيين، وهو مذهب انتشر في بعض العصور عند طوائف من المسلمين مع مخالفته لقوله تعالى: (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) . ومع هذه المخالفة كان لهذا المذهب أدب مترامي الأطراف في العصر العباسيّ وما بعده، والقرآن إنما يدعو إلى قصد السبيل؛ فلا يرضى هذا الحرمان، كما أنه لا يرضى الإباحية التي زعم إيرفنج أنها غمست المسلمين في الترف وصرفتهم عن الجهاد، وهو بالأمم الإسلامية إلى حيث هي اليوم.
ويزعم الكاتب الأمريكي أن المسيحيّة تدعو إلى الطهر والإيثار على نقيض ما يتقوّله هو على الإسلام.
ولست أريد أن أوازن بين الإسلام والمسيحية في هذه المسألة، لأنهما فيها متفقان غير مختلفين. وكثيرا ما تجرّ الموازنة إلى جدل وتنابز لا خير للمسيحية ولا للإسلام فيه. لكني ألاحظ، وأقف عند الملاحظة، أن بين سيرة عيسى عليه السلام وما ينسب إلى المسيحية، من دعوة إلى الرواقية والإمعان في الزهد، إختلافا بينا. فلم يكن المسيح رواقيّا؛ بل كانت أولى معجزاته أن أحال الماء خمرا في عرس «قانا الجليل» حيث كان مدعوّا، وحيث أراد ألا يحرم الناس الخمر بعد نفادها. وهو لم يكن يأبى دعوة الفريسيين إلى مادبهم الفخمة، ولا كان يأبى على الناس أن يستمتعوا بأنعم الله. وسيرة محمد في ذلك أشدّ إمعانا في قصد السبيل. صحيح أن عيسى كان يدعو الأغنياء إلى البرّ بالفقراء ومحبتهم من غير منّ. والقرآن في هذا وفي الدعوة إليه أبلغ ما عرف البشر، وقد تاكد القارئ من ذلك عند الكلام عن الزكاة وعن الصدقة، ما يغنينا عن معاودة القول فيه.