الغربية. فكلتاهما متّفقة على أن للكون سننا لا تحويل لها ولا تبديل، وأن ما في الكون جميعا خاضع لهذه السنن، وأن الإنسان خاضع لها خضوع سائر ما في الكون. لكن الجبرية الغربيّة تخضع المرء لبيئته ووراثته خضوع إذعان لا محيص عنه ولا مفرّ منه وتجعل إرادة الإنسان بعض ما يخضع لبيئته، فلا سبيل له لذلك إلى أن يغير نفسه. فأمّا القرآن فيدعو إرادة كل فرد للتوجّه بحكم العقل إلى ناحية الخير، ويذكر لهم أنه إذا كان قد قدّر لهم الخير فيما كسبت أيديهم، وأنهم لا ينالون هذا الخير اعتباطا من غير سعي.

يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (?) . ففي مقدورهم إذا أن يفكروا وأن يتدبّروا بعد أن هداهم الله بكتبه إلى الواجب عليهم، وبعد أن دلّهم أنبياؤه ورسله على طريق الحق، وبعد أن دعوا إلى النظر في الكون وتدبّر سننه ومشيئة الله فيه. ومن يؤمن بهذا، ومن يوجّه نفسه وجهته، فلن يصيبه إلا ما كتب الله عليه. فإذا كان قد كتب عليه أن يموت في سبيل الحق أو الخير الذي أمر الله به فلا خوف عليه، وهو وأمثاله أحياء عند ربهم يرزقون، أية دعوة إلى الإقدام وإلى السعي وإلى الإرادة كهذه الدعوة؟ وأين فيها ما يزعم إيرفنج والمستشرقون من تواكل؟!

التواكل ليس من التوكل على الله في شيء. فالتوكل على الله لا يكون بقعود المرء والتخلف عن أمر ربه، بل بالعمل الجدّيّ لما أمر به. وذلك قوله تعالى: (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) . فالعزم والإرادة يجب إذا أن يسبقا التوكل. وأنت ما عزمت ثم توكلت على الله بالغ نهاية أمرك بفضل منه. وأنت ما ابتغيت وجهه وحده، وما خشيته وحده، وما سلكت سبيله وحده، مهتد إلى الخير بحكم سنة الله في الكون، وسنّة الله لا تحويل لها ولا تبديل. وأنت بالغ هذا الخير، أدّى بك سعيك إلى النجاح والفوز، أو أدى بك إلى الموت. وما ينالك من الخير فمن عند الله. أمّا ما يصيبك من مكروه فيما كسبت يداك وباتباعك سبيلا غير سبيل الله.

فالخير كله بيد الله، والضلال والشر من نزع الشيطان وعمله ...

أمّا علم الله بكل ما يقع في الوجود قبل أن يبرأ الله الوجود، وأنه جلّ شأنه (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (?) فيرجع إلى أن الله برأ للكون سننا لا تحويل لها ويجب أن تنشأ عنها آثارها. وإذا كان العلماء يذهبون إلى ما قدمنا من أن العلم الواقعي يستطيع إذا عرف أسرار الحياة الإنسانية وسننها، أن يعرف ما قدّر لكل فرد ولكل أمة على وجه اليقين، كما يعرف مواقيت الكسوف والخسوف، فإن الإيمان بالله يقتضي حتما الإيمان بعلمه بكل شيء من قبل أن يبرأ العالم. وإذا كان المهندس الذي يصنع «تصميم» دار أو قصر ويراقب تنفيذ هذا التصميم، يستطيع أن يعلم مدى ما يعيش هذا البناء وما قد تتعرض له أجزاؤه المختلفة على مضيّ السنين، وكان علماء الاقتصاد يذهبون إلى أن السنن الاقتصادية تهداهم على سبيل القطع إلى معرفة ما ينشأ في حياة العالم الاقتصادية من أزمة أو رخاء، فإن مناقشة علم الله بكل صغيرة وكبيرة مما خلق في الكون تجديف لا يقبله عقل منطقي. وهذا العلم لا يصح أن يقف الناس عن التفكير في مالهم، والعمل جهد الطاقة لاتباع جادة الحق وتنكب طريق الضلال؛ فعلم الله غيب عليهم وهم مهتدون آخر الأمر إلى الحق ولو بعد حين. والله قد كتب على نفسه الرحمة، وهو يقبل توبة التائب من عباده ويعفو عن كثير. وما دامت رحمته وسعت كل شيء فليس لإنسان أن ييأس من الاهتداء إلى الحق والخير ما دام ينظر في الكون ويتدبر ما فيه. وليس لإنسان أن يقنط من رحمة الله إذا هداه نظره آخر الأمر سبيل الله. وإنما الويل لمن ينكر إنسانيته ويستكبر عن النظر والتفكير ابتغاء الهدى. أولئك يعاندون الله ولا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015