(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (?) . وكقوله: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (?) . وكقوله: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (?) .

إن يكن ذلك ما يعتمدون عليه فقد فاتهم معنى هذه الآيات وأمثالها، وما تصوره من صلة وثيقة بين العبد وربه، ودعاهم ذلك إلى الظن بأن الإسلام يدعو إلى التواكل مع أنه الدين الذي يدعو إلى الجهاد وإلى الإستشهاد وإلى الإباء والأنفة، كما يقيم حضارته على أساس من الإخاء والرحمة.

والواقع أن هذه الآيات وما جرى مجراها تصور حقيقة علمية قرّرتها كثرة فلاسفة الغرب وعلمائه وأطلقوا عليها مذهب الجبرية كذلك، ونسبوا الجبر فيها إلى سنّة الكون ومجموع الحياة فيه بدل أن ينسبوها إلى الله وعلمه وقدرته. وهذا المذهب الذي تقرّه كثرة فلاسفة الغرب أقلّ سعة وتسامحا وانطباقا على خير الجماعة الإنسانية من المذهب الفلسفي الذي يستخلص من القرآن الكريم، كما سنرى من بعد. وهذه الجبرية العلمية تذهب إلى أنّ ما لنا من اختيار في الحياة إنما هو اختيار نسبي ضئيل القدر وأن القول بهذا الإختيار النسبي يرجع إلى ضرورات الحياة الإجتماعية من ناحية عملية أكثر مما يرجع إلى حقيقة علمية أو فلسفية. فلو لم يتقرر مذهب الاختيار لتعذّر على الجماعة أن تجد أساسا تقيم عليه تشريعها، وحدودها، وتنظم بذلك حياتها، وتفرض به على كل إنسان جزاء تصرّفاته جزاء جنائيّا أو مدنيّا. صحيح أن بين العلماء والفقهاء من لا يقيمون أساس الجزاء على الجبر ولا على الاختيار، وإنما يقيمون على ما يحدث من ردّ الفعل الذي تقوم به الجماعة محافظة على كيانها، كما يقوم الفرد بمثله محافظة على كيانه. وسيان عند الجماعة إذ تقوم برد الفعل هذا أن يكون الفرد مختارا وأن يكون غير مختار. على أن الاختيار في التصرّف ما يزال الأساس للجزاء عند أكثر الفقهاء، ودليلهم عليه أن مسلوب الحرية والاختيار، كالمجنون والصغير والسفيه، لا يجزى عن عمله ما يجزى الرشيد الذي يميز بين الخير والشر. فإذا تخطينا هذه الاعتبارات العملية في الفقه والتشريع وأردنا أن نخلص إلى الحقيقة العلمية والفلسفية، ألفينا الجبرية هي هذه الحقيقة. فليس لأحد اختيار للعصر الذي يولد فيه، ولا للأمة التي يولد من أبنائها، ولا للبيئة التي ينشأ بينها، ولا لأبويه وفقرهما وغناهما، وفضلهما ونقصهما، ولا لأنه ذكر أو أنثى، ولا لما يحيط به من أحداث لها، أغلب الأمر، الأثر الأكبر في توجيه أعماله وحياته. وقد عبّر الفيلسوف الفرنسي «هيبّوليت تين» عن هذا المذهب بقوله: «المرء ثمرة بيئته» . وقد ذهب غير واحد من العلماء والفلاسفة في تأييد ذلك إلى حدّ القول بأن علمنا لو استطاع أن يصل من معرفة سنن الحياة الإنسانية وأسرارها إلى مثل ما وصل إليه من معرفة سنن الأفلاك، لاستطاع أن يحدّد بالدقّة مصير كل فرد وكل أمة، كما يحدّد الفلكيون بالدقة مواقيت كسوف الشمس وخسوف القمر. مع ذلك لم يقل أحد في الغرب ولا في الشرق بأن هذا المذهب الجبري يحول بين المرء والسعي للنجاح في الحياة أو يحول بين الأمم والوثوب إلى خير مكان، ولم يقل أحد بأن هذا المذهب يؤدّي إلى تدهور الأمم التي تأخذ به. هذا مع أن المذهب الجبريّ في الغرب لا تؤيّده في السعي والعمل آيات كالتي تلوت من آيات القرآن عن تبعة الإنسان عن عمله (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) . أفلا ينهض هذا وحده دليلا على تحامل المستشرقين الذين يزعمون أن جبريّة الإسلام قد أدّت إلى تدهور الأمم الآخذة به؟

بل إن الجبرية الإسلامية لأكثر حضّا على السعي إلى الخير والفضل وإلى ابتغاء الرزق من الجبرية

طور بواسطة نورين ميديا © 2015