كالكتابة في الدّين إلى أجل مسمى إلا أن تكون تجارة، وكإرسال الحكمين إذا وقع الشقاق بين الزوجين خيفة الفرقة، وكالقيام بالإصلاح بين طائفتين اقتتلوا، ومقاتلة الطائفة التي تبغي ولا ترضى الصلح حتى تفيء إلى أمر الله- تأخذ الإنسان الدهشة إذ يرى هذه الأمور، ويوازن بينها وبين ما ورد في الشرائع المختلفة، فإذا أحسن التشريع ما وافق هذه القواعد التي وضعها القرآن. فلا عجب إذا- وما ذكرنا عن الربا وعن الاشتراكية الإسلامية هو أساس النظام الاقتصادي المصوّر في القرآن، وهذه التفاصيل التشريعية هي خير ما وصل التشريع إليه في مختلف العصور- أن تكون الحضارة الإسلامية هي الحضارة الجديرة بالإنسانية الكفيلة حقّا بإسعادها.

ربما ذهب بعض كتّاب الغرب، بعد اطلاعهم على ما قدّمنا من تصوير القرآن للحضارة وأساسها، إلى أن طبيعة الإنسان لا تألف هذا النظام الذي يكلّفها من السموّ إلى ما فوق فطرتها ما لا تطيق، وأن نظاما ذلك شأنه ليس مقدورا له أن يحيا أو أن يطول بقاؤه. فالإنسان في رأيهم إنما يحركه الخوف والرجاء، وتحركه الأهواء والشهوات، شأنه في ذلك شأن الحيوان، وهو بعد حيوان ناطق. فحمل الإنسانية على الأخذ بنظام كالذي صوره الإسلام للحضارة أمر غير مستطاع، أو هو على الأقلّ غير ميسور. وغاية ما نطيق في نظم هذه الحياة للجماعة الإنسانية أن نهذّب الشهوات، وأن نحسن توجيه فكرة الخوف والرجاء من الناحية الاقتصادية الماديّة البحتة. فأمّا ما وراء ذلك فأمر لا قبل للجماعة به. ولعل الدليل عندهم على ذلك أن النظام الإسلامي، على النحو الذي صوّره القرآن وحاولت إيجازه هنا، لم يستقرّ في الجماعة الإسلامية نفسها إلا أيام النبي وفي الصدر الأوّل. ولو أن النظام كان صالحا للحياة لاستقرّ في تلك الجماعات الإسلامية الأولى ولانتشر منها في أنحاء العالم. أما وذلك لم يحدث، بل حدث نقيضه، فالزعم بأن هذا النظام أجدر بالإنسانية وأكفل بسعادتها زعم لا يصدّقه الواقع.

إدحاض الاعتراض

ويكفي لإدحاض هذا الاعتراض اعتراف أصحابه بأن النظام الإسلامي قام وطبّق في عهد النبي وفي الصدر الأوّل. ولقد كان محمد خير أسوة في تطبيقه. واتبع خلفاؤه الأوّلون أسوته الحسنة وساروا بهذا النظام إلى حيث يجب أن يبلغ كماله. لكن الدسائس والأهواء ما لبث بعد ذلك أن طغت شيئا فشيئا على أسسه الصحيحة من طريق الإسرائيليات تارة، ومن طريق الشعوبية أخرى. وكان من أثر ذلك أن عاد الناس شيئا فشيئا إلى تغليب المادة على الروح، والحيوانية على الإنسانية، وإلى الوقوف في دائرة الحدود التي تقف المدنية الحاضرة فيها اليوم، والتي تجرّ على الإنسانية شرّ أهوال الشقاء.

أسوة محمد

كان محمد خير أسوة في تطبيق الحضارة كما صوّرها القرآن. وقد رأيت من ذلك خلال هذا الكتاب كيف كان إخاؤه لبني الإنسان جميعا إخاء تامّا صادقا. كان إخوانه بمكة متساوين وإياه في احتمال البأساء والضرّاء؛ وكان هو أشدّ منهم للبأساء والضراء احتمالا فلمّا هاجر إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار فيها إخاء جعل له حكم إخاء الدم. وكان إخاء المؤمنين عامّة إخاء محبّة لإصلاح دعامة الحضارة الناشئة في ذلك العهد؛ وكان يقوّي هذا الإخاء إيمان صادق بالله بلغ من قوّته أن كان محمد يسمو به إلى الإتصال بالله جلّ شأنه.

وموقفه في غزوة بدر حين ناشد ربه النصر الذي وعده إيّاه، وجعل يستنجزه هذا النصر، ويذكر له أن فئة بدر إن هزمت لم يعبد، مظهر قويّ من مظاهر هذا الاتصال. ومواقفه في غير بدر من المواطن تدل على أنه كان دائم الاتصال بالله في غير الساعات التي ينزل فيها عليه الوحي. وكان إتصاله هذا من طريق إيمانه الصادق إيمانا جعله يستهين بالموت ويقبل عليه ويتمنّاه. فكل صادق في إيمانه لا يهاب الموت بل يتمنّاه. فلكل أجل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015