خلّف محمد هذا الميراث الروحي العظيم الذي أظلّ العالم ووجّه حضارته خلال عدة قرون مضت، والذي سيظلّه من بعد ويوجه حضارته حتى يتم الله في العالم نوره. وإنما كان لهذا الميراث كل هذا الأثر فيما مضى، وسيكون له مثله وأكثر منه من بعد، لأنه أقام دين الحق ووضع أساس حضارة هي وحدها كفيلة بسعادة العالم. والدّين والحضارة اللذان بلّغهما محمد للناس بوحي ربه، يتزاوجان حتى لا انفصال بينهما.
ولئن قامت هذه الحضارة الإسلامية على أساس من قواعد العلم وهدى العقل، واستندت في ذلك إلى ما تستند إليه الحضارة الغربية في عصرنا الحاضر؛ ولئن استند الإسلام من حيث هو دين إلى التفكير الذاتي، وإلى المنطق التجريدي (الميتافيزيقي) - إن الصلة مع ذلك وثيقة بين الدين ومقرّراته والحضارة وأساسها. ذلك بأن الإسلام يربط بين التفكير المنطقي والشعور الذاتي، وبين قواعد العقل وهدى العلم، برابطة لا مفرّ لأهله من البحث عنها والاهتداء إليها ليظلّوا مسلمين وطيدا إيمانهم. وحضارة الإسلام تختلف من هذه الناحية عن الحضارة الغربية المتحكمة اليوم في العالم، كما تختلف عنها في تصوير الحياة والأساس الذي يقوم هذا التصوير عليه. وهذا الاختلاف بين الواحدة والآخرى من هاتين الحضارتين جوهريّ إلى الحدّ الذي يجعل أساس كل واحدة منهما نقيض الأساس الذي تقوم عليه الآخرى.
يرجع هذا الاختلاف إلى أسباب تاريخية، أشرنا إليها في تقديم هذا الكتاب وفي تقديم طبعته الثانية.
فقد أدّى النزاع في الغرب المسيحي بين السلطتين الدينية والزمنية- وبعبارة هذا العصر: بين الكنيسة والدولة- إلى الفصل بينهما وإلى إقامة سلطان الدولة على إنكار سلطان الكنيسة. وكان لهذا التنازع على السلطان أثره في التفكير الغربي كله. وفي مقدّمة النتائج التي ترتبت على هذا الأثر ما كان من تفريق بين الشعور الإنساني والعقل الإنساني، وبين منطق العقل المجرّد ومقررات العلم الواقعي المستندة إلى الملاحظة المادّية. وكان لانتصار التفكير الماديّ أثره البالغ في قيام النظام الاقتصادي أساسا رئيسيا للحضارة الغربية. فقد نشأ من ذلك أن قامت في الغرب مذاهب تريد أن تجعل كل ما في عالمنا خاضعا لحياة هذا العالم الإقتصادي، كما أراد غير واحد أن يضع تاريخ الإنسانية في أديانها وفنّها وفلسفتها وتفكيرها وعلمها بوحي ما كان من مدّ أو جزر اقتصادي في أممها