وكان عند محمد أوّل ما اشتد به المرض سبعة دنانير خاف أن يقبضه الله إليه وما تزال باقية عنده، فأمر اهله أن يتصدّقوا بها. لكن اشتغالهم بتمريضه والقيام في خدمته واطّراد المرض في شدّته أنساهم تنفيذ أمره.
فلما أفاق يوم الأحد الذي سبق وفاته من إغمائه سألهم: ما فعلوا بها؟ فأجابت عائشة إنها ما تزال عندها.
فطلب إليها أن تحضرها، ووضعها في كفه ثم قال: «ما ظنّ محمد بربه لو لقي الله عنده هذه» . ثم تصدق بها جميعا على فقراء المسلمين.
وقضى محمد ليله هادئا مطمئنّا نزلت عنه الحمّى، حتى لكأن الدواء الذي سقاه أهله قد فعل فعله وقضى على المرض عنده. وبلغ من ذلك أن استطاع أن يخرج ساعة الصبح إلى المسجد عاصبا رأسه معتمدا على عليّ بن أبي طالب والفضل بن العباس. وكان أبو بكر ساعتئذ يصلي بالناس. فلما رأى المسلمون النبيّ وهم في صلاتهم قد خرج إليهم كادوا يفتنون فرحا به وتفرّجوا، فأشار إليهم أن يثبتوا على صلاتهم. وسرّ محمد بما رأى من ذلك أكبر سرور واغتبط له أعظم الغبطة. وأحسّ أبو بكر بما صنع الناس، وأيقن أنهم لم يفعلوه إلا لرسول الله، فنكص عن مصلّاه يريد أن يتخلّى لمحمد عن مكانه. فدفعه محمد في ظهره وقال: صلّ بالناس؛ وجلس هو إلى جنب أبي بكر فصلّى قاعدا عن يمينه. فلمّا فرغ من صلاته أقبل على الناس رافعا صوته حتى سمعه من كان خارج المسجد فقال: «أيها الناس؛ سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله ما تمسّكون عليّ بشيء. إني والله لم أحلّ إلا ما أحلّ القرآن ولا أحرّم إلا ما حرّم القرآن. لعن الله قوما اتّخذوا قبورهم مساجد» .
ولقد عظم فرح المسلمين بما رأوا من مظاهر التقدم في صحة النبيّ، حتى أقبل عليه أسامة بن زيد يستأذنه في مسيرة الجيش إلى الشام، وحتى مثل بين يديه أبو بكر قائلا: يا نبيّ الله إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما تحبّ، واليوم يوم بنت خارجة، أفاتيها؟ فأذن النبيّ له في ذلك، وانطلق أبو بكر إلى السنح بأطراف المدينة حيث تقيم زوجه. وانصرف عمر وعليّ لشئونهما. وتفرّق المسلمون وكلهم سعيد مستبشر، بعد أن كانوا إلى أمس عابسين مغمومين لما يتّصل بهم من أخبار النبيّ ومرضه واشتداد الحمّى به وإغمائه. وعاد هو إلى بيت عائشة والسرور لرؤية هؤلاء المسلمين قد امتلأ بهم المسجد يفعم قلبه، وإن كان يحس جسمه ضعيفا غاية الضعف، وعائشة تنظر إلى هذا الرجل الذي يمتلئ قلبها تقديسا لجلال عظمته، وقد ملكها الإشفاق عليه لضعفه ومرضه، فهي تودّ لو تبذل له حشاشة نفسها لتردّ إليه القوّة والحياة.
لكن خروج النبيّ إلى المسجد لم يكن إلا الصحو الذي يسبق الموت. فقد كان يزداد بعد دخوله إلى البيت في كل لحظة ضعفا، وكان يرى الموت يدنو، ولم يبق لديه ريب في أنه لم يبق له في الحياة إلا سويعات. ترى ماذا عساه كان يشهد في هذه السويعات الباقية له على فراق الحياة؟ أفكان يستذكر حياته منذ بعثه الله هاديا ونبيّا، وما لاقى فيها، وما أتم الله عليه من نعمته، وما شرح به صدره من فتح قلوب العرب لدين الحق؟ أم كان يقضيها مستغفرا ربه متوجّها إليه بكل روحه على نحو ما كان يفعل كلّ حياته؟ أم كان يعاني هذه الساعات الأخيرة من آلام النزع ما لم يبق لديه قوّة الاستذكار؟ تختلف الروايات في ذلك اختلافا كبيرا وأكثرها على أنه دعا في هذا اليوم القائظ من أيام شبه الجزيرة، 8 يونيو سنة 632 م، بإناء فيه ماء بارد كان يضع يده فيه ويمسح بمائه وجهه؟ وأن رجلا من آل أبي بكر دخل على عائشة وفي يده سواك، فنظر إليه محمد نظرا دل على أنه