فقال: «فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون» . ومن هنا ظنّ بعضهم أن النّبيّ استخلف أبا بكر من بعده أن كانت الصلاة بالناس أول مظهر للقيام مقام رسول الله.
وبلغت به شدة المرض حدّا آلمه. ذلك أن الحمّى زادت به حتى لقد كانت عليه قطيفة، فإذا وضع أزواجه وعوّاده أيديهم من فوقها شعروا بحرّ هذه الحمّى المضنية. وكانت ابنته فاطمة تعوده كل يوم، وكان يحبها ذلك الحب الذي يمتلئ به وجود الرجل للابنة الواحدة الباقية له من كل عقبه. لذلك كانت إذا دخلت على النبقّي قام إليها وقبّلها وأجلسها في مجلسه. فلمّا بلغ منه المرض هذا المبلغ دخلت عليه فقبّلته؛ فقال:
مرحبا بابنتي، ثم أجلسها إلى جانبه وأسرّ إليها حديثا فبكت، ثم أسرّ إليها حديثا آخر فضحكت. فسألتها عائشة في ذلك؛ فقالت: ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فلمّا مات ذكرت أنه أسرّ إليها أنه سيقبض في مرضه هذا فبكت، ثم أسرّ أنها أول أهله يلحقه، فضحكت. وكانوا لاشتداد الحمّى به يضعون إلى جواره إناء به ماء بارد، فما يزال يضع يده فيه ويمسح بها على وجهه. وكانت الحمّى تصل به حتى يغشى عليه أحيانا ثم يفيق وهو يعاني منها أشد الكرب؛ حتى قالت فاطمة يوما وقد حزّ الألم في نفسها لشدة ألم أبيها: واكرب أبتاه! فقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم. يريد أنه سينتقل من هذا العالم عالم الأسى والألم.
وحاول أصحابه يوما تهوين الألم على نفسه، فذكروا له نصائحه ألا يشكو المريض. فأجابهم: إن ما به أكثر مما يكون في مثل هذه الحال برجلين منهم. وفيما هو في هذه الشدّة وفي البيت رجال قال: «إيتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا» . قال بعض الحاضرين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، وحسبنا كتاب الله. ويذكرون أن عمر هو الذي قال هذه المقالة. واختلف الحضور، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. ومنهم من يأبى ذلك مكتفيا بكتاب الله، فلمّا رأى محمد خصومتهم قال: قوموا! ما ينبغي أن يكون بين يدي النبيّ خلاف. وما فتئ ابن عباس بعدها يرى أنهم أضاعوا شيئا كثيرا بأن لم يسارعوا إلى كتابه ما أراد النبيّ إملاءه. أمّا عمر فظلّ ورأيه، أن قال الله في كتابه الكريم: (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (?) .
وتناقل الناس ما بلغ من اشتداد المرض بالنبي، حتى هبط أسامة وهبط الناس معه الجرف إلى المدينة.
ودخل أسامة على النبيّ في بيت عائشة، فإذا هو قد أصمت (?) فلا يتكلم. فلما بصر بأسامة جعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها على أسامة علامة ادّعاء له.
ورأى أهله وهذه حاله أن يسعفوه بعلاج، فأعدّت أسماء قريبة ميمونة شرابا كانت عرفت أثناء مقامها بالحبشة كيف تعدّه، وانتهزوا فرصة إغماءة من إغما آت الحمّى فصبّوه فيه. فلما أفاق قال: من صنع هذا؟
ولم فعلتموه؟!. قال عمه العبّاس: خشينا يا رسول الله أن تكون بك ذات الجنب. قال: ذلك داء ما كان الله عزّ وجلّ ليقذفني به!. ثم أمر بمن في الدار، خلا عمّه العباس، أن يتناولوا هذا الدواء لم تستثن منهم ميمونة على رغم صيامها.