في محقّتها. سار وتبعه هذا الجمع الزاخر، يذكر طائفة من المؤرّخين أنه كان تسعين ألفا، ويذكر آخرون أنه كان أربعة ومائة ألف: ساروا يحدوهم الإيمان وتملأ قلوبهم الغبطة الصادقة لسيرهم إلى بيت الله الحرام يؤدون عنده فريضة الحجّ الأكبر. فلمّا بلغوا ذا الحليفة نزلوا وأقاموا ليلتهم بها. فلما أصبحوا أحرم النبيّ وأحرم المسلمون معه، فلبس كلّ منهم إزاره ورداءه وصاروا ينتظمهم جميعا زيّ واحد هو أبسط ما يكون زيّا، وقد حققوا بذلك المساواة بأسمى معانيها وأبلغها. وتوجّه محمد بكل قلبه إلى ربه ونادى ملبّيا والمسلمون من ورائه: «لبيك اللهم لبّيك لا شريك لك لبيك. الحمد والنعمة والشكر لك لبّيك. لبّيك، لا شريك لك لبيك» . وتجاوبت الأودية والصحاري بهذا النداء تلبي كلها وتنادي بارئها مؤمنة عابدة. وانطلق الركب بألوفه وعشرات ألوفه يقطع الطريق بين مدينة الرسول ومدينة المسجد الحرام، وهو ينزل عند كل مسجد يؤدّي فيه فرضه، وهو يرفع الصوت بالتلبية طاعة لله وشكرا لنعمته، وهو ينتظر يوم الحج الأكبر نافذ الصبر مشوق القلب ممتلئ الفؤاد لبيت الله هوى ومحبة، وصحاري شبه الجزيرة وجبالها وأوديتها وزروعها النضرة في دهش مما تسمع وتتجاوب به أصداؤها مما لم تعرف قطّ قبل أن يباركها هذا النبيّ الأمّي عبد الله ورسوله.
فلما بلغ القوم سرفا، وهي محلّة في الطريق بين مكة والمدينة، قال محمد لأصحابه: من لم يكن منكم معه هدي فأحبّ أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا.
وبلغ الحجيج مكة في اليوم الرابع من ذي الحجّة، فأسرع النبيّ والمسلمون من بعده إلى الكعبة، فاستلم الحجر الأسود فقبّله، وطاف بالبيت سبعا هرول في الثلاث الأولى منها على نحو ما فعل في عمرة القضاء. وبعد أن صلى عند مقام إبراهيم عاد فقبّل الحجر الأسود كرة أخرى، ثم خرج من المسجد إلى ربوة الصّفا، ثم سعى بين الصفا والمروة. ثم نادى محمد في الناس أن لا يبق على إحرامه من لا هدي معه ينحره.
وتردّد بعضهم، فغضب النبيّ لهذا التردّد أشد الغضب وقال: ما آمركم به فافعلوه. ودخل قبّته مغضبا.
فسألته عائشة. ما أغضبك؟ فقال: ومالي لا أغضب وأنا آمر أمرا فلا يتّبع!. ودخل أحد أصحابه وما يزال غضبان، فقال: من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار. فكان جواب الرسول: أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يتردّدون! ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه، ثم أحل كما حلّوا. كذلك روى مسلم. فلما بلغ المسلمين غضب رسول الله حلّ الألوف من الناس إحرامهم على أسف منهم، وحلّ نساء النبيّ وحلّت ابنته فاطمة مع الناس، ولم يبق على إحرامه إلا من ساق الهدي معه.
وبينما المسلمون في حجّهم أقبل عليّ عائدا من غزوته باليمن وقد أحرم للحج لمّا علم أن رسول الله حج بالناس. ودخل على فاطمة فوجدها قد حلّت إحرامها. فسألها فذكرت له أن النبي أمرهم أن يحلوا بعمرة.
فذهب إلى النبي فقصّ عليه أخبار سفرته باليمن. فلما أتمّ حديثه، قال له النبي: انطلق فطف بالبيت وحلّ كما حلّ أصحابك. قال عليّ: يا رسول الله، إنني أهللت كما أهللت. قال النبي: إرجع فأحلل كما حلّ أصحابك. قال عليّ: يا رسول الله إني قلت حين أحرمت: اللهم إني أهدل بما أهلّ به نبيك وعبدك ورسولك محمد. فسأله النبيّ: أمعه هدي؟ فلما نفي عليّ أشركه محمد في هديه، وثبت عليّ على إحرامه وأدّى مناسك الحج الأكبر.