(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (?) . وفي سورة المائدة كذلك يقول تعالى: (وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) (?) . إلى آخر الآيات التي نقلنا في تقديم هذا الكتاب: وسورة المائدة هي التي من بين آياتها الآية التي يحتج بها المؤرخون من النصارى، ويتّخذونها دليلا على تطوّر موقف محمد منهم لتطوّر أحواله السياسية؛ إذ يقول تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (?) .
والآيات التي نزلت في سورة براءة وتحدّثت عن أهل الكتاب لم تتحدّث عنهم في إيمانهم بالمسيح بن مريم، وإنما تحدّثت عنهم وعن شركهم بالله وفي أكلهم أموال الناس بالباطل وفي كنزهم الذهب والفضة.
والإسلام يرى ذلك خروجا من أهل الكتاب على دين عيسى، يجعلهم يحلّون ما حرّم الله ويصنعون صنيع من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر. وهو مع ذلك يجعل من إيمانهم بالله، على الرغم من ذلك كله، شفيعا لهم لا تجوز معه مساواتهم بالوثنيين، ويكفي معه، إن هم أصروا على أن يجعلوا الله ثالث ثلاثة وعلى أن يحلوا ما حرّم الله، أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
كانت هذه الدعوة التي أذّن عليّ بها، يوم حجّ أبي بكر بالناس، آية إسلام الناس من أهل الجنوب في شبه الجزيرة ودخولهم في دين الله أفواجا. فقد توالت الوفود تترى على المدينة كما قدّمنا من قبل، ومن بينها وفود من المشركين ووفود من أهل الكتاب. وكان النبيّ يكرم كل وافد عليه ويردّ الأمراء مكرمين إلى إماراتهم. من ذلك ما سبق لنا ذكره في الفصل الماضي، ومنه أن الأشعث بن قيس قدم في وفد كندة في ثمانين راكبا، دخلوا المسجد على النبيّ وقد رجّلوا لممهم وتكحّلوا ولبسوا جبب الحبر بطّنوها بالحرير، فلما رآهم النبي قال: ألم تسلموا؟ قالوا: بلى. قال: فما هذا الحرير في أعناقكم، فشقّوه. وقال له الأشعث: يا رسول الله، نحن بنو آكل المرار وأنت ابن آكل المرار فتبسم النبيّ ونسب ذلك إلى العبّاس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث. وقدم وائل بن حجر الكنديّ مع الأشعث وكان أمير بلاد الشاطئ من حضرموت فأسلم، فأقره النبي في إمارته على أن يجمع العشر من أهل بلاده ليرده إلى جباة الرسول. وكلّف النبي معاوية بن أبي سفيان أن يصحب وائلا إلى بلاده. وأبي وائل أن يردفه أو أن يعطيه نعليه يتقي بهما حمّارّة القيظ مكتفيا بأن يدعه يسير في ظلّ بعيره. وقبل معاوية ذلك على مخالفته لما جاء به الإسلام من التسوية بين المسلمين ومن جعل المؤمنين إخوة، حرصا على إسلام وائل وقومه.
ولما انتشر الإسلام في ربوع اليمن، أوفد النبي معاذا إلى أهله يعلّمهم ويفقههم وأوصاه قائلا: «يسّر