إسلامه وحرصه على دعوة قومه للدخول في دين الله. ولم يكن عروة ليجهل محمدا وعظم أمره، وقد كان أحد الذين فاوضوه عن قريش في صلح الحديبية. وعرف النبيّ بعد إسلام عروة اعتزامه الذهاب إلى قومه يدعوهم إلى الدين الذي دخل فيه، وكان النبيّ يعرف من تعصّب ثقيف لصنمها اللّات ومن نخوتها وشدتّها ما جعله يحذّر عروة ويقول له: إنهم قاتلوك، لكن عروة اعتزّ بمكانه من قومه فقال: يا رسول الله، أنا أحبّ إليهم من أبصارهم. وذهب عروة فدعا قومه إلى الإسلام؛ فتشاوروا فيما بينهم ولم يبدوا له رأيا. فلما كان الصباح قام على علّية له ينادي إلى الصلاة. هنالك صدقت فراسة الرسول، فلم يطق قومه صبرا، فأحاطوا به ورموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم قاتل. واضطرب من حول عروة أهله، فقال وهو يسلم الروح: «كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليّ، فليس فيّ إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل أن يرتحل عنكم» . ثم طلب أن يدفن مع الشهداء فدفنه أهله معهم.
ولم يذهب دم عروة هدرا، فإن القبائل التي تحيط بالطائف كانت قد أسلمت كلها، ولذلك رأت فيما صنعت ثقيف بسيد من سادتها إثما ونكرا. ورأت ثقيف من أثر ذلك أنهم صاروا لا يأمن لهم سرب، ولا يخرج منهم رجل إلا اقتطع، وأيقنوا أنهم إن لم يجدوا سبيلا إلى صلح أو هدنة مع المسلمين فمصيرهم لا ريب إلى الفناء. وأتمر القوم فيما بينهم، وتحدثوا إلى كبير منهم (عبد يا ليل) ، كي يذهب إلى النبيّ يعرض عليه صلح ثقيف معه. وخشي عبد يا ليل أن يصيبه من قومه ما أصاب عروة بن مسعود، فلم يقبل أن يخرج إلى محمد حتى أوفدوا معه خمسة آخرين، اطمأنّ إلى أنه إذا خرج معهم ثم عادوا شغل كلّ رجل منهم رهطة.
ولقي المغيرة بن شعبة القوم حين دنوا من المدينة، فأسرع يريد أن يخبر النبيّ خبرهم. ولقيه أبو بكر يشتدّ في السير؛ فلما عرف منه ما جاء فيه طلب إليه أن يدع له هذه البشرى يزفّها إلى رسول الله ودخل أبو بكر فأخبر النبيّ بقدوم وفد ثقيف.
وكان هذا الوفد ما يزال يعتزّ بقومه، وما يزال يذكر حصار النبيّ للطائف وانصرافه عنها. فمع ما علمهم المغيرة كيف يحيون النبيّ بتحية الإسلام لم يرضوا حين قابلوه إلا أن يحيوه بتحية الجاهلية، ثم إنهم ضربت لهم قبة خاصّة في ناحية من المسجد أقاموا بها يصرّون على الحذر من المسلمين وعدم الطمأنينة إليهم.
وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله في مفاوضتهم إياه؛ فكانوا لا يطعمون طعاما يأتيهم من عند النبيّ حتى يأكل منه خالد. وقام هذا بالسفارة، فأبلغ محمدا أنهم مع استعدادهم للإسلام، يطلبون إليه أن يدع لهم صنمهم اللات ثلاث سنين لا يهدمها، وأن يعفيهم من الصلاة. وأبى محمد عليهم ما طلبوا من ذلك أشدّ إباء. ولقد نزلوا يطلبون أن يدع اللات سنتين، ثم أن يدعها سنة، ثم أن يدعها شهرا واحدا بعد انصرافهم إلى قومهم، ولكن إباءه ذلك كان حاسما لا تردّد فيه ولا هوادة. وكيف تريد من نبيّ، يدعو إلى دين الله الواحد القهار ويهدم الأصنام فلا يذر منها باقية، أن يتهاون في أمر صنم منها، وإن كان لقومه من المنعة ما كان لثقيف بالطائف! فالإنسان إمّا أن يؤمن، وإمّا ألّا يؤمن، وليس بين الطرفين إلا الارتياب والشكّ. والشكّ والإيمان لا يجتمعان في قلب كما لا يجتمع الإيمان والكفر. وبقاء اللات طاغية ثقيف علم على أنهم لا يزالون يداولون عبادتهم بينها وبين الله جلّ شأنه. وهذا إشراك بالله، والله لا يغفر أن يشرك به.