أخرج إلينا يا محمد. وآذى نداؤهم النبيّ، فما كان ليخرج إليهم لولا أن أذّن لصلاة الظهر. فلمّا رأوه ذكروا ما صنع عيينة بأهلهم، كما ذكروا ما كان لمن أسلم منهم من جهاد إلى جانبه، وما لقومهم من مكانة بين العرب.
ثم قالوا له: إنا جئناك نفاخرك. فأذن لشاعرنا وخطيبنا. فقام خطيبهم عطارد بن حاجب، فلمّا فرغ دعا رسول الله ثابت بن قيس ليردّ عليه. ثم قام شاعرهم الزّبرقان بن بدر فأنشد، وأجابه حسّان بن ثابت. فلما انتهت المفاخرة، قال الأقرع بن حابس: وأبى إنّ هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا. وأسلم القوم؛ فأعتق النبيّ الأسرى وردّهم إلى قومهم.
فأمّا بنو المصطلق فإنهم لما رأوا الصيرف فرّ هاربا خافوا عاقبة أمرهم، وأوفدوا إلى النبيّ من ذكر له أن الخوف في غير محلّ له هو الذي أدّى إلى ما وقع من سوء الفهم.
ولم تكن ناحية من نواحي شبه الجزيرة إلا بدأت تحسّ سلطان محمد. ولم تحاول طائفة أو قبيلة أن تقاوم هذا السلطان إلا بعث النبي إليها قوة تحملها على الإذعان بدفع الخراج والبقاء على دينها، أو الإسلام ودفع الزكاة.
وفيما كانت عينه على بلاد العرب جميعا حتى لا ينتقض فيها منتقض، وحتى يستتبّ الأمن في ربوعها من أقصاها إلى أقصاها، إذ اتّصل به نبأ من بلاد الروم أنها تهيئ جيوشا لغزو حدود العرب الشمالية غزوا ينسي النسا انسحاب العرب الماهر في مؤتة، وينسي الناس ذكر العرب وسلطان المسلمين الزاحف في كل ناحية ليتاخم سلطان الروم في الشام وسلطان فارس في الحيرة. واتّصل به هذا النبأ مجسما أيّما تجسيم. فلم يتردد هنيهة في تقرير مواجهة هذه القوى بنفسه، والقضاء عليها قضاء يقضي في نفوس سادتها على كل أمل في غزو العرب أو في التعرّض لهم. وكان الصيف لما ينته. والقيظ في أوائل الخريف يصل إلى درجات تجعله أشدّ من قيظ الصيف في هذه الصحاري إرهاقا وقتلا. ثم إن الشقّة من المدينة إلى بلاد الشام طويلة شاقّة تحتاج إلى الجلد وتحتاج إلى المؤونة وإلى الماء. إذا لا مفر من أن يطالع محمد الناس بعزمه السير إلى الروم وقتالهم، حتى يأخذوا لذلك عدّتهم. ولا مفرّ من أن يخالف بذلك تقاليده في سابق غزواته، حين كان يتوجّه في كثير من الأحيان بجيشه إلى غير الناحية التي إليها يقصد، تضليلا للعدوّ حتى لا يفشو خبر مسيرته. وأرسل محمد في القبائل جميعا يدعوها للتهيؤ كيما تعدّ أكبر جيش يمكن إعداده، وأرسل إلى أثرياء المسلمين ليشاركوا في تجهيز هذا الجيش بما آتاهم الله من فضله، وليحرّضوا الناس على الانضمام إليه حتى يكون من الأهبة بما يدخل الروع في نفوس الروم الذين عرفوا بوفرة عدتهم وكثرة عديدهم.
بم عسى أن يستقبل المسلمون هذه الدعوة إلى هجر أبنائهم ونسائهم وأموالهم في شدّة القيظ ليقطعوا فيافي وصحاري مجدبة قليلة الماء، ثم ليلقوا عدوّا غلب الفرس ولم يقهره المسلمون؟! أفيدفعهم إيمانهم وحبهم للرسول وشديد تعلّقهم بدين الله إلى الإقبال على دعوته متدافعين بالمناكب حتى يضيق بهم فضاء الصحراء دافعين أمامهم أموالهم وإبلهم، مدرّعين بسلاحهم مثيرين أمامهم من النقع ما إن يكاد يبلغ العدوّ نبؤه حتى يولي الأدبار لا يلوي على شيء؟ أم تمسكهم مشقّة الطريق وشدة الحرّ ومخافة الجوع والعطش فيتقاعسون ويتراجعون؟ لقد كان في المسلمين يومئذ من هؤلاء وأولئك: كان فيهم أولئك الذين أقبلوا على الدين بقلوب ممتلئة هدى ونورا، ونفوس غمرها ضياء الإيمان فلا تعرف غيره، وكان فيهم من دخل دين الله رغبا ورهبا؛