المسلمون هذه الحصون المنيعة إلا أن يلجأوا إلى وسائل غير التي ألفوا حتى اليوم حين حاصروا قريظة وخيبر.
أتراهم إن هم اكتفوا بالحصار يصلوا إلى تجويع ثقيف تجويعا يحملها على التسليم؟ وإذا هم أرادوا مهاجمتها فما عسى أن تكون هذه الوسائل الجديدة التي يهاجمونها بها؟ هذه أمور تحتاج إلى التفكير وإلى الوقت. فلينسحب العسكر إذا بعيدا عن مرمى النبل لكي لا يصيبه فيقتل رجال من المسلمين، ثم ليفكر محمد فيما عسى أن يصنع. وأمر عليه السلام فنقل العسكر بعيدا عن مرمى النبل في مكان أقيم به مسجد الطائف بعد أن سلّمت الطائف وأسلمت. ولم يكن من ذلك بدّ وقد قتلت نبال ثقيف ثمانية عشر من المسلمين، وجرح كثيرون، بينهم أحد أبناء أبي بكر. وفي جانب من هذا المكان البعيد عن مرمى النبال ضربت خيمتان من جلد أحمر لزوجتي النبيّ أمّ سلمة وزينب، وكانتا تسيران معه في كل هذه الوقائع منذ ترك المدينة. وبين هاتين الخيمتين كان محمد يقيم الصلاة. ولعل مسجد الطائف إنما أقيم في هذا المكان.
وأقام المسلمون ينتظرون ما الله صانع بهم وبعدوّهم. قال أحد الأعراب للنبيّ: إنما ثقيف في حصنها كالثعلب في جحره، لا سبيل إلى إخراجه منه إلا بطول المكث، فإن تركته لم يلحقك منه ضرّ. لكنّما شق على محمد أن يعود أدراجه دون أن يصيب من ثقيف شيئا. وكان لبني دوس (إحدى القبائل المقيمة بأسفل مكة) علم بالرماية بالمنجنيق وبمهاجمة الحصون في حماية الدّبابات. وكان أحد رؤسائها الطّفيل قد صحب محمدا منذ غزا خيبر؛ وكان معه عند حصار الطائف؛ فأوفده النبيّ إلى قومه يستنصرهم؛ فجاء بطائفة منهم ومغهم أدواتهم فبغوا الطائف بعد أربعة أيام من حصار المسلمين إيّاها، ورمى المسلمون الطائف بالمنجنيق، وبعثوا إليها بالدبّابات دخل تحتها نفر منهم، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف ليخرقوه. لكن رجال الطائف كانوا من المهارة بحيث أكرهوا هؤلاء على أن يلوذوا بالفرار. فقد أحموا قطعا من الحديد بالنار، حتى إذا انصهرت ألقوها على الدّبابات فحرّقتها، ففرّ جنود المسلمين من تحتها خيفة أن يحترقوا؛ فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلت جماعة منهم. لم يفلح هذا المجهود إذا أيضا، ولم يستطع المسلمون التغلّب على مناعة هذه الحصون.
ماذا عساهم بعد ذلك يصنعون؟ فكر محمد في هذا وفكر طويلا. ولكن ألم ينتصر على بني النّضير وبجلها عن ديارها بإحراق نخيلها؟! وكروم الطائف أكبر قيمة من نخيل بني النّضير، فهي كروم لها من ذيوع الاسم في بلاد العرب جمعاء ما تباهي به الطائف أخصب بلاد العرب، وما جعل الطائف واحة كأنها الجنة وسط هذه الصحاري. وأمر محمد فبدأ المسلمون ينفّذون، يقطعون ويحرّقون الكروم التي ما يزال لها حتى اليوم مثل ما كان لها من شهرة وذيوع صوت. ورأى الثقفيّون هذا وأيقنوا أن محمدا جادّ فيه، فبعثوا إليه أن يأخذه لنفسه إن شاء وأن يدعه لله وللرحم لما بينه وبينهم من قرابة. استمهل محمد رجاله. ثم نادى في ثقيف إنه معتق من جاء إليه من الطائف. ففرّ إليه قرابة عشرين من أهلها. عرف منهم أن بالحصون من الذخيرة ما يكفي أمدا طويلا. هنالك رأى أن الحصار سيطول أمده، وأن جيوشه تودّ الرجوع لاقتسام الفيء الذي كسبوا، وأنه إن أصرّ على البقاء فقد ينفد صبرهم. هذا وكانت الأشهر الحرم قد آذنت ولا يجوز فيها قتال. لذلك آثر أن يرفع الحصار بعد شهر من وقوعه. وكان ذو القعدة قد هلّ فرجع بجيشه معتمرا، وذكر أنه متجهّز إلى الطائف إذا انتهت الأشهر الحرم.