نخلة، ثم ولى وجهه نحو الطائف فاحتمى بها.
وكذلك كان نصر المؤمنين مؤزّرا، وكانت هزيمة المشركين تامّة بعد ذلك الفزع الذي أصاب المسلمين في عماية الصبح، وحين شدّ المشركون عليهم شدّة رجل واحد ضعضعت صفوفهم وخلطت حابلهم بنابلهم.
كان نصر المسلمين مؤزّرا بفضل ثبات محمد والفئة القليلة التي أحاطت به. وفي ذلك نزل قوله تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ. ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
(?) .
على أن المسلمين لم يحرزوا هذا النصر المؤزّر رخيصا، بل دفعوا ثمنا غاليا لعلهم لم يكونوا يدفعونه لولا تخاذلهم الأوّل وتدافعهم مهزومين، ليقول فيهم أبو سفيان: إنهم لا يردّهم إلا البحر. دفعوا الثمن غاليا من مهج الرجال وأرواح الأبطال الذين استشهدوا في الموقعة. ولئن لم تحص كتب السيرة كلّ القتلى، لقد ذكرت أن قبيلتين من المسلمين فنيتا أو كادتا، وأن النبيّ صلى على أرواحهم رجاء أن يدخلهم الله الجنة. لكنه كان النصر على كل حال: النصر التّامّ تغلّب فيه المسلمون. على خصومهم وغنموا منهم وأسروا ما لم يغنموا ولم يأسروا من قبل. والنصر هو كل شيء في النضال أيّا كان الثمن الذي يدفع فيه ما دام نصرا شريا. لذلك اغتبط المسلمون بما جزاهم الله، وظلّوا يرتقبون قسمة الفيء والعود بالغنيمة.
لكن محمدا كان يريده نصرا أكثر روعة وأعظم جلالا. وإذا كان مالك بن عوف هو الذي قاد هذه الجموع، ثم احتمى بعد هزيمتها مع ثقيف بالطائف، فليحاصر المسلمون الطائف وليضيقوا عليها الحصار.
وتلك كانت خطّة محمد في خيبر بعد أحد، وفي قريظة بعد الخندق. ولعله ادّكر في موقفه هذا يوم ذهب إلى الطائف لسنوات قبل الهجرة يدعو أهلها إلى الإسلام، فسخروا منه وقذفه صبيانهم بالأحجار، حتى اضطرّ إلى الاحتماء من أذاهم بحائط (?) فيه كرم. ولعله ادّكر كيف ذهب يومئذ منفردا ضعيفا، لا حول له ولا قوّة إلا حول الله وقوّته، وإلا هذا الإيمان العظيم الذي ملأ صدره والذي يدكّ الجبال. وها هو ذا الآن يذهب إلى الطائف في جمع من المسلمين لم تشهد جزيرة العرب في ماضي تاريخها جمعا مثله.
أمر محمد أصحابه إذا أن يسيروا إلى الطائف ليحاصروا بها ثقيفا وعلى رأسها مالك بن عوف. وكانت الطائف مدينة محصنّة لها أبواب تغلق عليها كأكثر مدن العرب في ذلك العصر. وكان أهلها ذوي دراية بحرب الحصار، وذوي ثروة طائلة جعلت حصونهم من امنع الحصون. وقد سار المسلمون إليها فمرّوا في مسيرتهم بليّة حيث يقوم حصن خاص لمالك بن عوف فهدموه، كما خرّبوا أثناء مسيرتهم كذلك حائطا لرجل من ثقيف.
وبلغ المسلمون الطائف، فأمر النبيّ عسكره فنزل على مقربة منها، وجمع أصحابه ليفكروا فيما يصنعون. لكن ثقيفا ما لبثت حين رأتهم من أعلى حصونها أن نالتهم بالنبل وقتلت جماعة منهم. ولم يكن من اليسير أن يقتحم