أسفل مكة أشدّ قريش عداوة لمحمد، ومن اشتركوا مع بني بكر في نقض الحديبية بالغارة على خزاعة. هؤلاء لم يرضهم ما نادى به أبو سفيان. بل أعدّوا عدّتهم للقتال، وأعدّ آخرون منهم عدتهم للفرار. وقام على رأسهم صفوان وسهيل وعكرمة بن أبي جهل. فلمّا دخلت فرقة خالد أمطروها نبالهم، لكن خالدا لم يلبث أن فرّقهم، ولم يقتل من رجاله إلا اثنان ضلّا طريقهما وانفصلا عنه. أمّا قريش ففقدوا ثلاثة عشر رجلا في رواية، وثمانية وعشرين في رواية أخرى. ولم يلبث صفوان وسهيل وعكرمة حين رأوا الدائرة تدور عليهم أن ولّوا الأدبار.

تاركين وراءهم من حرّضوهم، على المقاومة يصلون بأس خالد وبطش أبطاله معه. وبينما كان محمد على رأس المهاجرين يرقى في مرتفع ينزل منه إلى مكة مطمئن النفس لفتحها في سكينة وسلم بصر بأمّ القرى وبما فيها جميعا، وبصر بتلماع السيوف أسفل المدينة وبمطاردة جيش خالد لمن هاجموهم. هنالك أسف وصاح مغضبا يذكر أمره ألا يكون قتال. فلمّا علم بما كان، ذكر أن الخيرة فيما اختاره الله.

ونزل النبيّ بأعلى مكة قبالة جبل هند، وهنالك ضربت له قبّة على مقربة من قبري أبي طالب وخديجة.

وسئل: هل يريد أن يستريح في بيته؟ فأجاب: كلا! فما تركوا لي بمكة بيتا. ودخل إلى القبّة يستريح وقلبه مفعم بشكر الله أن عاد عزيزا منتصرا إلى البلد الذي آذاه وعذّبه وأخرجه من بين أهله ودياره، وأجال بصره في الوادي وفي الجبال المحيطة به، في هذه الجبال التي كان يأوي إلى شعابها حين يشتد به أذى قريش وتشتدّ به قطيعتها، في هذه الجبال، ومن بينها حراء حيث كان يتحنّث حين نزل عليه الوحي أن: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (?) .

أجال بصره في هذا الجبال وفي الوادي مبعثرة منازل مكة فيه يتوسّطها البيت الحرام، فبلغ من خضوعه لله أن ترقرقت في عينه دمعة إسلام وشكر للحق لا حقّ إلا هو، إليه يرجع الأمر كله. وشعر ساعتئذ أن مهمّة القائد قد انتهت، فلم يقم بالقبّة طويلا بل خرج وامتطى ناقته القصواء وسار بها حتى بلغ الكعبة، فطاف بالبيت سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن (?) . في يده. فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة ففتح الكعبة، فوقف محمد على بابها وتكاثر الناس في المسجد، فخطبهم وتلا عليهم قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (?) .

العفو العام

ثم سألهم: «يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟» قالوا: «خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم!» . قال: «فاذهبوا فأنتم الطلقاء» . وبهذه الكلمة صدر العفو العام عن قريش وعن أهل مكة جميعا.

العفو العام

ما أجمل العفو عند المقدرة! ما أعظم هذه النفس التي سمت كل السمّو، فارتفعت فوق الحقد وفوق الانتقام، وأنكرت كل عاطفة دنيا، وبلغت من النبل فوق ما يبلغ الإنسان! هؤلاء قريش يعرف محمد منهم من ائتمروا به ليقتلوه، ومن عذّبوه وأصحابه من قبل ذلك. ومن قاتلوه في بدر وفي أحد، ومن حصروه في غزوة الخندق، ومن ألّبوا عليه العرب جميعا، ومن لو استطاعوا قتله وتمزيقه إربا إربا لما ونوا في ذلك لحظة! هؤلاء قريش في قبضة محمد وتحت قدميه، أمره نافذ في رقابهم، وحياتهم جميعا معلّقة بين شفتيه، وفي سلطانه هذه الألوف المدجّجة بالسلاح تستطيع أن تبيد مكة وأهلها في رجع البصر! لكن محمدا! لكن النبي! لكن رسول الله ليس بالرجل الذي يعرف العداوة أو يريد بها أن تقوم بين الناس. وليس هو بالجبّار ولا بالمتكبر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015